ينظر الباحثون إلى الصعود السريع لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في العام 2014، واستيلائه على مساحات كبيرة في العراق وعلى محافظة الرقة في سوريا، على أنه أحد أكبر الألغاز التي يصعب تفسيرها، ومنذ إعلان زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي قيام الخلافة وتأسيس “الدولة الإسلامية” من على منبر مسجد النوري الكبير في الموصل، وحتى سقوط آخر معاقل التنظيم في العام 2019 في قرية الباغوز، بمحافظة دير الزور، قدمت “دولة الخلافة” أحد أكثر نماذج التجارب الجهادية وحشية وعنفاً، كما أسهم التنظيم في تطورات جذرية غيرت وجه المنطقة، كما أسهمت في تغيير وجه الثورة السورية وخرائط النفوذ في سوريا على نحو يصعب معه تصور عودة الجغرافيا السياسية السورية إلى ما كانت عليه قبل ظهور “داعش”.
اليوم، وبعد ١٠٠ شهر على إعلان تنظيم داعش خلافته المزعومة، وبعد الضربات المؤثرة التي تلقاها التنظيم مؤخرا وأسفرت عن مقتل واعتقال عدد من قادته الرئيسيين، وارتفاع وتيرة هجمات التنظيم في سوريا مجددا، تثور أسئلة كثيرة حول نشأة وطبيعة ومصير التنظيم.
“حرية برس” توجه ببعض هذه الأسئلة إلى الدكتور عبد الرحمن الحاج، الأستاذ في جامعة أنقرة للعلوم الاجتماعية، مدير مؤسسة “الذاكرة السورية”، والباحث المتخصص في دراسة العلاقة بين الدين والسياسية والمجتمع، وكان هذا الحوار:
س 1: كيف تفسر هذا الصعود والهبوط السريعين لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وعودة هجمات التنظيم مؤخرا؟
ج – هنالك أربعة أسباب رئيسية لعودة التنظيم، أهمها أن التنظيم لديه بيئة حاضنة في البادية العراقية السورية، وهي البيئة الاجتماعية الأكثر تضرراً من الأحداث الجارية، وبطبيعة الحال هي بيئة مهمشة وناقمة، الأمر الذي ساعد التنظيم في التجنيد وإعادة بناء شبكة من المقاتلين.
السبب الثاني أن التنظيم احتفظ بقدر من المال من الموارد النفطية والضرائب التي كان يجنيها إبان سيطرته على مساحات واسعة في سوريا، كما أن التنظيم لديه خبرة في التمويل الذاتي في فرض الإتاوات والضرائب وجبي الزكاة بطرق مختلفة معظمها “يكون بالتهديد بالقوة والترهيب”.
السبب الثالث أن البيئة السياسية التي خلقتها سيطرة تنظيم “قسد” وتحكم أقلية كردية مفروضة بالقوة الأمريكية وتدار من أكراد أجانب في جبال قنديل بمنطقة ذات أغلبية عربية سنية وقبلية، أوجدت بيئة سياسية مواتية لعودة داعش وإعادة بناء شبكتها داخل مناطق سيطرة قسد.
أما السبب الرابع والأخير فيهو أن داعش انحسرت إلى البادية حيث يصعب العثور عليها وحيث لا يمكن السيطرة على الأرض هناك لأي جهة وبدأ استراتيجية زعزعة الاستقرار بالكمائن، خصوصاً طرق الإمداد بالنفط ونقل الجنود، وهو أمر مكنها من خلق دعاية العودة والتأثير، الأمر الذي توج في عملية سجن الحسكة والتي كانت مؤشراً حاسما على تنامي قوة التنظيم.
س 2: وفق هذه الأسباب التي يبدو أنها مستمرة، هل تتوقع عودة التنظيم؟
ج: التنظيم في المدى المنظور سيزداد قوة ولكنه لن يتمكن من العودة إلى ما قبل معركة الباغوز، والسبب أن قاعدته الاجتماعية تتوسع مع تنامي الرفض لتحكم الإدارة الذاتية الكردية، وتوسيع التجنيد الإجباري، بالإضافة إلى زيادة الأوضاع الاقتصادية صعوبة، ثمة بيئة سياسية اجتماعية أوجدتها الإدارة الذاتية جعلت عودة التنظيم محتمة، لكن ما الشكل الذي سيعود إليه التنظيم؟ على الأرجح أنه سيبقى على شكل قوة خارج المدن في البادية تصنع الكمائن وتقوم بالهجوم عندما يتاح لها، وتتهيأ الفرص لاستهداف مراكز القوة الأمنية والعسكرية والاقتصادية لتنظيم قسد، لكن بقاء الوضع على هذا المنوال سيخلق تنظيمات متطرفة أخرى أكثر تلاؤماً مع الوضع الجديد وعلى الأغلب لن تكون أقل تطرفا من داعش، لكن بالضرورة أكثر حنكة ودهاء في السياسة، لأن الأجيال الجهادية ترث الخبرات في العادة وتطور نفسها، وعادة ما تشكل المنعطفات الكبرى في المناطق تاريخ ولادة تنظيمات متطرفة جديدة.
س 3: ماهي المناطق التي يتوقع عودة تنظيم داعش إليها، خاصة أن التنظيم يشهد حضورا خارج معاقله التقليدية، غرب إفريقيا أو سيناء أو القرن الإفريقي مثالاً؟
ج: عودة تنظيم “داعش” عموماً مرتبطة بالبؤر الأكثر توتراً والتي تتشكل فيها مظلوميات سياسية واجتماعية عميقة، لهذا السبب عادت عمليات التنظيم الأساسية في البادية والحواضر المرتبطة بها، والتنظيم لن يعود إلى السيطرة على الجغرافيا في المدى المنظور والمتوسط، بقدر ما سيشكل مناطق نفوذ، ومناطق عمليات، مناطق النفوذ هي المناطق التي يسيطر عليها عملياً دون إيجاد سلطة منظمة وبدون حدود ثابتة، تتعلق بإمكانية استعمال التنظيم للقوة، وتتشكل هذه المناطق بالكمائن في البادية، وتستهدف الطرق الرئيسية، في حين أن مناطق العمليات هي المناطق التي يستطيع التنظيم القيام فيها بعمليات عسكرية هجومية واستهداف خصومه، وغالبا ما تكون هي المناطق الحضرية الواقعة تحت سيطرة إحدى القوة المعادية له.
أما وجود التنظيم في دول إفريقيا ودول أخرى مثل شرق آسيا فإن التنظيم هناك مجرد واجهة، إذ لا تشكل تلك المناطق عمقا استراتيجيا له، ولكن معظم التنظيمات المتطرفة تجد في مبايعتها لتنظيم داعش وسيلة لمواجهة خصومهم من التنظيمات الجهادية السلفية الأخرى، كما أنها تعطي انطباعاً بأنهم جزء من تنظيم دولي عنيف للغاية، ما يساعد على تكوين انطباع عن تنامي قوة التنظيم المحلي، لكن فعلياً ليس للتنظيم تأثير عميق، وإن كانت الصلات قائمة بالفعل، كما أن التنظيم ينقل خبراته القتالية لها، وهي خبرات ليست هينة على الإطلاق، غالب الدول التي تعاني من أزمات سياسية حادة مرشحة لعودة التنظيم وتناميه فيها، الصومال، تشاد، نيجيريا وموريتانيا وسيناء.
س 4: ماهي الروافع والحوامل التي ستخدم التنظيم في حال عودته؟
ج: روافع عودة التنظيم هي أولاً وقبل كل شيء، بيئة سياسية لسكان يعانون من التهميش والاضطهاد لأسباب دينية أو عرقية أو اجتماعية، هنالك خبرات للتنظيم أساسا في كيفية استثمار هذه البيئة، وثانياً بيئة جغرافية مواتية، وهي غالباً البادية والمناطق التي يصعب السيطرة عليها، وأخيراً قدرة على التمويل الذاتي والاستغناء عن شبكات التمويل الجهادية العالمية، وجميعها متحقق.
س 5: هل من المتوقع ظهور التنظيم في إيران مع اشتداد الاحتجاجات هناك ؟
ج: يمكن أن يظهر التنظيم في إيران، هذا طبيعي، وهو موجود بالفعل وتبنى عدة عمليات في الفترة الماضية، لكن من الواضح أن التنظيم لا يملك قاعدة اجتماعية واسعة، والسبب يعود إلى أن هنالك تنظيمات إيرانية تفي بالحاجة في الأوساط السنية والعربية، أعني الأكراد وعرب الأهواز، وهذا ما يجعل قدرة التنظيم على النشاط في إيران محدودة.
س 6: هل جهود التحالف الدولي ضد داعش مجدية بمحاربة التنظيم ومنع أو مواجهة احتمالية عودته؟
ج: جهود التنظيم الدولي في مكافحة التنظيم حققت نتائج ملموسة لكنها ناقصة، لأنها تعتمد مبدأ الحل الأمني، في حين الجميع موقن، بما فيهم الإدارة الأمريكية ذاتها ومعظم مراكز الأبحاث المتخصصة بالمنطقة، أن الحل السياسي العادل في المنطقة هو الكفيل بالقضاء على تنظيم داعش وعلى الإرهاب، وما لم يتم ذلك فإن أسباب عودة التنظيم وقيام تنظيمات إرهابية جديدة أمر سيبقى مستمراً، فوجود “قسد” الحليف الأساسي للتحالف الدولي في سوريا هو السبب الرئيسي لعودة التنظيم الآن في سوريا.
س 7: ماهي نقاط الالتقاء والاختلاف بين تنظيم داعش والشيعة السياسية؟
ج: داعش ظهر أساساً كردة فعل على الشيعية السياسية (الإسلام السياسي الشيعي) عندما قاد المالكي حرب طائفية ضد السنة، وساهمت معظم القيادات السياسية الشيعية في “كتائب الموت” في حرب إبادة ضد العرب السنة العراقيين بحجة الانتقام من حقبة حكم البعث أو حكم صدام حسين، لهذا يمكن اعتبار داعش هي الوجه السني المقابل للشيعية السياسية في العراق والتي امتدت إلى لبنان وأفغانستان.
أما الفارق بين الاثنين فهو أن وارء تنظيمات الشيعية السياسية دولة وميليشيات مُتحكم بها من قبلها، وتعرف كيف ومتى تستخدم عنف هذه التنظيمات لتحقيق مكاسب سياسية وعقد اتفاقات دولية وإقليمية، في حين أن تنظيم داعش لم يكن تحت أي سلطة ولم يكن محمياً من قبل أي طرف، فالتنظيم لا يملك إمكانات الدولة الفعلية التي تمتلكها التنظيمات الشيعية المتطرفة.
الباحث د.عبد الرحمن الحاج: “قسد” السبب الرئيسي لعودة “داعش” في سوريا
د. الحاج: عودة تنظيم "داعش" عموماً مرتبطة بالبؤر الأكثر توتراً والتي تتشكل فيها مظلوميات
حوار: علي الدالاتي
Sorry Comments are closed