الصراع اليوم على أشدّه بين منصّات التواصل “الاجتماعيّة” للاستحواذ على مزاج العالم والتأثير في آرائهم، وفي أفكارهم التي تؤثر بالقضايا المصيريّة في حياتهم ومن حولهم. ولعلّ الضجيج الإعلاميّ بخصوص شراء أيلون ماسك موقع تويتر، أفضل دعاية ولوج يوميّ مجانيّة يقدّمها الناس إلى منصّة التغريد الأشهر التي تعيش منذ أيام انقلابات جذرية في سياساتها، وتغيراً في بنائها الإلكتروني وميزاتها تجاه المستخدمين.
قال لهم “ماسك”: “ادفعوا ثمانية دولارات شهرياً، وستكون العلامة الزرقاء من نصيبكم!”. وذلك، بلا شك، يقتضي توثيقاً دقيقاً لمعلومات أصحاب الحسابات على “تويتر”، وبالتالي هيمنة أعمق على المنصّة. فيما يركّز “فيسبوك” أكثر على الإعلانات، يبقي الصفحات الموثقة، التي فيها آلاف المتابعين شبه ضامرة في شريط التحديث اليومي، ربما ثمّة أتمتة مبرمجة للإخفاء التلقائي، كل منشور يتضمّن روابط خارجية، تقريباً لا تظهر، أو أي نص وصورة أو حتى مقطع فيديو، تكون فرص الظهور ضعيفةً من الصفحات العامة، ما لم يُدفَع مقابل الترويج (…)، وهذا بالضبط ما فعله ماسك، ولكن بطريقة أكثر ذكاءً. لقد لعب على اللذة الباطنة في النفس البشريّة لامتلاك السلطة، وكم من سنواتٍ كان هناك مئات الآلاف من “المؤثرين” و”الفاعلين” على المنصّات الإلكترونيّة يستحقّون علامة التوثيق، حفاظاً على مصداقية محتواهم. تلك اللعبة موجودة على باقي المنصّات مع برمجة مختلفة، والنتيجة هي الإمساك بالوعي الإلكتروني العام.
يتحوّل الناس في “تيك توك” إلى دمىً عبر مُقامرات الفيديو المباشر و”التحدّيات” المدفوعة طبعاً، باستخدام إرسال الرموز المأجورة للأشخاص الذين يتنافسون على جمع النقاط. هناك ألفاظ نابية على الهواء مباشرة، سلوك شاذّ مَرَضيّ لدى معظم المتحدثين، استعراض وتعرٍّ شبه كامل، لا يوجد قانون لضبط ذلك، ولكم أن تضعوا بحثاً بسيطاً عن تحديات “تيك توك” لتشهدوا مدى الانحطاط الذي وصل إليه عدد لا يُستهان به من البشر على وجه هذه الأرض.
يجري العمل على تحويل خدمة الإنترنت عبر منصّات التواصل في معظمها إلى سوق تجاريّ لبيع الوهم، وهم السّلطة، ووهم الشّهرة، ووهم القوة
حقاً، أتشارك الصفات الإنسانية مع أشخاص على استعداد للاستحمام بالطلاء القذر والقمامة والبراز من أجل تحطيم الآخر وقبول التحدّي؟ ولكني أيضاً أشبه في أمكنة معينة تطلعات مئات الآلاف ممّن يسعون للحصول على العلامة الزرقاء، ذاك السحر الخلّبي لامتلاك السلطة! لكن، سلطة على مَن؟ لست أدري؟ إذا كانت كلّ الأجهزة الإلكترونيّة الموصولة على الإنترنت في حياتنا تتضمّن خصائص تتبع للأبحاث التي نقوم بها والتصفح اليوميّ، وتتجسّس ليلاً ونهاراً على ما يدور في منازلنا من أحاديث واهتمامات ومشكلات إلخ، ونحن ننفذ ونتابع وندفع ونتقبّل ونتبع كلّ ما تريده تلك المنصات منّا بالحذافير المطلوبة لتأجير العقول وتسطيح النفس بالموازاة مع المكانس البدائية التي تعمل على جمع الغبار من صحاري العالم، ثم وتنتصر لهذا “الإنجاز” من كمية الخواء الفكري.
إذاً سيبيعنا تويتر العلامة الزرقاء مقابل مبلغ سنويّ يصل إلى 96 دولاراً، وقد يصبح أي منشور على “فيسبوك” مأجوراً للانتشار أكثر، وسيفجّر “ماسك” كلّ الحسابات “الوهمية”، التي درجت عبر صفقات بيع المتابعين. أمّا “تيك توك”، فهي منصة مشاركة الفيديو المباشر مع من تريد، مشاركة البث المباشر؛ ميزة ألغتها شركة “ميتا” من فيسبوك وإنستغرام في دول كثيرة، وستتيح الفيديوهات التواصل مع المشاهير في مختلف المجالات، وجعل الناس يسجّلون لهم فيديوهات للحظات معهم مقابل إكراميّة مالية، إنها آخر صراعات التسوّل عن بُعد!
وفي النتيجة، لا شيء سوى المزيد من تحويل خدمة الإنترنت عبر منصّات التواصل في معظمها إلى سوق تجاريّ لبيع الوهم، وهم السّلطة، ووهم الشّهرة، ووهم القوة. ويعود السؤال: قوّة على مَن ومِن أجل ماذا؟
أصبحت السيطرة على الناس أكثر سهولة ويسراً، هم يعتقدون أنهم أحرارٌ والأنظمة تقطّر لهم الحريّة حسب مصالحها
سأعذر الشركات والمتاجر والشخصيات الفاعلة في ميادين عملها على موضوع أن يكون لها متابعون، وأن تعرض التجارب “الملهمة”، وأن تلهب قلوب الملايين بالتفاعل وبيع الاهتمام، ولو على مستوى افتراضي، كأن الناس مفطورون على وجود “البطل” والتمسّك به، لأنه سيشعرهم بقيم مفقودة في حياتهم! إلا أنني أسأل: ما جدوى كلّ ذلك الضجيج والركض في قطعان عبر المنصّات وتعزيز وحشية الإنسان، تهميش عقله وطاقته الروحيّة ليكون مجرّد شريحة شبه بشريّة تُستهلَك لتبقى على قيد حياة بلا قيمة؟
ما الفائدة من الحصول على توثيق افتراضيّ لأي أحد إذا كان وجوده بالمعنى الفيزيائيّ وتأثيره لا يساوي شيئاً؟ لقد لعبت السياسة دوراً كبيراً في مراقبة المنصّات من كثب، وتحليل تأثيرها في النّاس منذ بدأت تطبيقات الهواتف المحمولة بالانتشار، أي منذ أصبحت السيطرة على الناس أكثر سهولة ويسراً، هم يعتقدون أنهم أحرارٌ والأنظمة تقطّر لهم الحريّة حسب مصالحها، وهذا لا شك فيه، لأننا رأينا كيف أثّر الرئيس الأميركي السابق، ترامب، مثلاً، عبر تغريداته في تويتر بمؤيديه للقيام بأحداث 6 يناير (2021)، المعروفة بأحداث الكابيتول، الأمر الذي دفع إدارة تويتر إلى حجب حساباته وكذلك عبر “فيسبوك”، فأنشأ الرجل منصّة خاصة وأعلن الحرب على كلّ من يخالفه!
وكذلك نتذكّر جيداً كيف كانت ثورات الربيع العربي تنطلق من منصّات التواصل الإلكتروني. وفي جميع الأحوال، يمكن فهم حاجة التحرّكات الكبيرة، سواء كانت تمثل أشخاصاً بوزن الرؤساء أو تجمعات ناطقة باسم مجموعة حقيقية كبيرة، بَيد أن المسألة هنا أن التأثير في التجربة الحياتية بات ممسوكاً بعناد حديديّ من الشاشة التي أمامكم، تماماً، يمكن أن تصدق بسهولة أن أحداثاً مرعبة تقوم حالياً في نقطة جغرافية بمجرد بثّ مقاطع من هناك مليئة بالدم والأشلاء، والعكس صحيح، أي قد يكون هناك قصف أو كوارث في مناطق غير متوقعة، ولا يسعنا تصديق أن مثل تلك المناطق بحاجة إلى تأييدنا الروحي؛ صلواتنا والتضامن والتعاطف والتبرّع…
عدم رغبة الناس في أن يكونوا طبيعيين حسب مقدّراتهم، سيحوّل المجتمعات التي تتغذّى على منصّات التواصل الإلكترونيّة إلى مجتمعات مختلّة بكل بنيانها النفسي، ولا قيمة تحكم الإنسانية، لأنها قد تقلّد مجتمعاتٍ بعيدة عن واقعها، ستصبح لاحقاً وحشية أو لامبالية.
عدم رغبة الناس في أن يكونوا طبيعيين سيحوّل المجتمعات التي تتغذّى على منصّات التواصل إلى مجتمعات مختلّة بكل بنيانها النفسي
إننا نبذل الجهد للفت النظر من أجل تسويق قضيتنا، انتبهوا لقد استخدمت مصطلح “تسويق”، والمسألة تحتاج إلى تفهّم وإيمان، ولكن على الجميع أن يدفع. هكذا يصرّ قادة المنصّات الكبيرة، علينا أن ندفع بأي وسيلة؛ مالاً وطاقةً وأفكاراً ومشاركات ونشراً مجانيّاً وتقديم قياسات دقيقة لنبض الشارع، بكل هدوء ودقة عالية، ومن دون أن يدفعوا قرشاً لنا. على العكس، سيمنحوننا العلامة الزرقاء ووهم السلطة، سنشعر بوجودنا الإلكتروني، بما أن وجودنا الفيزيائيّ بات مهدّداً مرّة بموضة “الفيروسات” ومرّة بالحروب المفتعلة، وثالثة بالغلاء المتفق عليه، كما يحدث في أزمة الطاقة اليوم.
لنتذكّر ذلك المشهد الذي لا أعتقد أنه سيتوقف عن الظهور بتحديثاتٍ غريبة، إنّه مشهد حمل الهواتف النقالة لتسجيل فيديو أو صورة مع شخصية مشهورة أو لحدثٍ ما، مهما كان تافهاً. إنّهم يريدون أن يوثقوا أيضاً على طريقتهم، أن يمتلكوا أرشيفاً مرّاً من الذكريات ليقولوا لِمن حولهم وعبر المنصّات “كنّا هناك”! أجل، كنّا وهي مرتبطة جداً بالوجود، وقد لا يكونون فيما بعد موجودين، انتهت شهوة الشهرة، أصاب المرار طعم حبّة التخدير التي تخترع الضوء المخادع عبر نوافذ الشاشات.
أشير بالبنان إلى غياب القانون الذي يحمي إنسانيّة الإنسان ويحافظ على مسافةٍ لا يصبح بعدها العقل البشريّ مجرّد ماكينة قتل للوقت من طريق خطوط الاستهلاك والمشاهدات يومياً، ليس مطلوباً من كلّ الناس أن يكونوا مشاهيرَ على لا شيء، ولا أن يكونوا مؤثّرين من اللاشيء. ومها قلّدوا المقاطع الشهيرة من المسرحيات والأفلام والفيديوهات المضحكة، سيبقون كما هم مجرّد ملخصات عن العدم المتزايد من مأزق الوجود الإلكتروني. مجرد أرصدة للتفاؤل بمزيد من الانحطاط كي يقول عنهم شبح “التريند”: إنهم مرقمون بعلامة زرقاء، كأنهم موجودون “وسط أناسٍ قانعين. وسط أناس لم يكونوا يخافون أكثر” كما يصف الكاتب إلياس كانتي ظواهر التدجين في مسرحيته “المرقمون”.
عذراً التعليقات مغلقة