السوريون يأكلون الحصرم والدول المؤثرة تدخل مرحلة ما بعد النزاع

أحمد جاسم الحسين30 سبتمبر 2022آخر تحديث :
أحمد جاسم الحسين

لا منتصرَ في سوريا بعد 11 عاماً على بدء ثورة عام 2011، بل خاسرون سوريون؛ يصعب عليهم أن ينتقلوا إلى مرحلة ما بعد النزاع. لا يستوعب كثيرٌ منهم أن مرحلة من عمر الصراع انتهت، وبالتالي فإن عليهم أن ينظروا إلى مستقبل سوريا في ضوء ذلك، وأن يعطوا مرحلة ما بعد النزاع حقها من العمل؛ كي لا تنهار هي الأخرى، بما تحمله من هشاشة وتحولات بصفتها مرحلة “حرب ما بعد الحرب”، كي لا تقع الحرب مرة أخرى. أخلاقياً؛ لا يمكن المقارنة بين من حمل قيم الحرية والثورة مع سواه، لكن عالم السياسة له لغة أخرى: لئيمة وقاسية.

منذ سنوات؛ أعلنت أطراف الصراع في سوريا انتصارها: قسد على داعش، والنظام على المعارضة، فيما اكتفت هيئة تحرير الشام بتوطيد سلطاتها على الأرض، انتصر الجميع على الجميع وخسرنا سوريا. أما نحن السوريين، فتأخرنا قليلاً في إدراك المآل، كما كل صاحب مأساة، غالباً ما يكابر، أو يتجاهل الوقائع، تحركه دوافع تريد إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، لكن الزمان لا يستجيب.

أقرتْ الأطراف الدولية، باتفاقات مبطنة أو عبر الصمت، بتقسيم الجغرافيا السورية، مرحلياً، إلى أربع مناطق تسيطر عليها وتسيِّرُ شؤونها سلطات الأمر الواقع

لا ثمن كبير للحماس في سوق السياسة، ولا بدّ من إدراك أن المنطقة باتت في مرحلة “الثورات المضادة وما بعد الربيع العربي” التي تقودها دول وميزانيات، ويشجعها عالم يبحث عن السلام ومكان لتصريف بضائعه، محمَّلاً بتبعات الحرب في أوكرانيا، وأزمة الغاز، ومشكلة المناخ.

أقرتْ الأطراف الدولية، باتفاقات مبطنة أو عبر الصمت، بتقسيم الجغرافيا السورية، مرحلياً، إلى أربع مناطق تسيطر عليها وتسيِّرُ شؤونها سلطات الأمر الواقع. حيث تتعامل تلك الأطراف مع الملف السوري تبعاً لأجنداتها الداخلية والدولية، ومصالحها في مرحلة ما بعد النزاع وإعادة الإعمار. لم تحترق أياديهم بالنار السورية، يعاينون المشهد بأعصاب باردة.

إيران تفرض حضورها على الأرض أكثر عبر هدفين: أحدهما مرحليّ يتجلَّى في مزيد من الضغوطات في مفاوضات الملف النووي. والآخر استراتيجي يتمثل في الإبقاء على قوة حضور أنيابها في سوريا؛ التي يمكن أن تكشر عنها، إنْ حاول الأميركان التخلي عن الاتفاق مرة أخرى. تعلمتْ المفاوض الإيراني من درس سابق مع الأميركان، يستعيرون اليوم من مرحلة ما بعد النزاع طريق التفاوض لشراء الوقت، والهشاشة التي تجيد هندستها، وبات لديها خبرة ملفتة في لبنان والعراق واليمن وسوريا.

تركيا من جهتها؛ تريد تحييد الملف السوري قبل الانتخابات الرئاسية المفصلية، في إطار تصفير المشاكل، استعارت من مرحلة ما بعد النزاع كذلك نهج التفاوض، فسلكته مع معظم من اختلفت معهم، وبعيداً عن “البروغاندا الإعلامية” مع اليونان؛ التي لا بدّ أن تبقى لضرورات انتخابية؛ فإنها لن تقوم بأي خطوة غير التفاوض حالياً. والتفاوض تبادلٌ للآراء والحلول، ليس شيئاً سلبياً بالمفهوم الفردي والدولي. لكن هناك محدِّداتٌ أخلاقية قد تغيب عن السياسيين الأتراك إبان التفاوض مع النظام مثلاً: هل ستقود المفاوضات إلى تحصيل حقوق الناس المتضررين؟ وهل ستسير مع تفاهمات دولية كجزء من استراتيجية لحل الملف السوري أما أنها ستظهر كتصرف فردي نتيجة ظرف آني انتخابي؟ هل نسوا أن النظام السوري نظام مستبد، من الصعب أن يفارق ماضيه الإجرامي الكيماوي؟

تحقيق العدالة الانتقالية وإقرار أسس للمحاسبة مطلبٌ مهم في سياق مرحلة ما بعد النزاع، وهو ما عبَّر عنه الجانب القطري في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام، ولفتَ الأنظار إلى أن المشكلة ليست في اللاجئين بل في أسباب لجوئهم. والملف السوري يشكل فرصة لإعادة التفكير بمآل قضايا العالم وحلولها.

بعيداً عن حماسنا وانكساراتنا كأشخاص اختاروا الوقوف مع قيم الثورة السورية، لا بد من الإقرار بأن الكثير من الدول المؤثرة انتقلت إلى مرحلة ما بعد النزاع في معالجة الملف السوري؛ فماذا نحن السوريين فاعلون؟

في الإجابة: يغلب على مواقف السوريين اليوم، بمختلف أطيافهم، الذهول والارتباك والشماتة والتحسر والتوهم. وهذه الانفعالات ملعبٌ للعواطف والغرائز، وليست ملعباً للفعل السياسي، قد يلائم حالة مؤقتة، وقد نصل إلى مرحلة لا تعود فيها سوريا كلها ملعباً أو لاعباً أو كرة، بل تتحول إلى عبء مهمَل، ثقيل الحضور.

تسيطر على معظم جمهور النظام، مثلاً، حالة من اللاوعي السياسي، فيتبع موقف السلطة الحاكمة التي تدير تفاصيله بمركزية أمنية ملفتة، تشغله بفكرة أنه لم يخسر الحكم، أو استعاد معظم مناطق سوريا، يسوقون فكرة الانتصار على السوري الآخر “الإرهابي”. تعيد المخابرات جمهورها إلى مرحلة ما قبل الدولة، وما قبل النزاع بالالتفاف حول هويات ما قبل وطنية. لا تشغلها فكرة السلم الأهلي، أو نشر التفكير الديمقراطي أو ثقافة التسامح، بل تعُدُّ أيّ حديث عن العدالة الانتقالية موجهاً إليها، لذلك لا بدّ من رفضه، وتسعى لتسويغ ثقافة المنتصر، والهروب من الاستحقاقات. هناك فئة قليلة من هذا الجمهور لا تزال مشغولة بفكرة سوريا الموحدة، وأن الحل لا يكون إلا بالتفاوض والتسامح والبحث عن المشتركات.

تسيطر على جمهور المعارضة في ما يدعى بـ “المحَرَّر” اتجاهات عدة، أحدها لا يزال يعيش تحت أثر وهج الثورة، يحسبُ أن حلمه الصادق والنبيل والإنساني بالحرية والمساواة والديمقراطية يكفيه لينتصر على الخصم، الذي يتفنَّن في سياسة عدم مدّ الأيادي للبحث عن المشترك.

وهناك قسم آخر من هذا الجمهور لم يستوعب صدمة التهجير والنزوح، ينشغل بمقاومة مظاهر اللاديمقراطية والفساد؛ التي تسيطر على الجغرافية التي يعيش فيها؛ في ظل غياب منظومة أو حكومة مركزية تقود تلك البقعة الجغرافية نحو حال أفضل مما آلت إليه.

ثمة شريحة من هذا الجمهور ليس لها صوت مسموع، تحضر الندوات والدورات حول مرحلة ما بعد النزاع، لكنها لا ترى شيئاً على أرض الواقع، تقترب يوماً بعد يوم من مرحلة فقدان الأمل!

قيادات “قسد” اتخذت موقفاً ملفتاً، إذ أعيد صالح مسلم إلى الواجهة وهو الخبير في العلاقة مع النظام، وقد كان صديقاً وزائراً دورياً لعدد من قادة الأجهزة الأمنية للنظام السوري في مرحلة ما قبل الثورة. أما الموقف السياسي للسوريين في مناطق الإدارة الذاتية فينقسم إلى اتجاهات عدة: الجمهور الكردي، في أغلبه، يعتقد أنه حلم أكثر من اللازم، ولا بد أن يستيقظ من حلمه في كيان مستقل، على صعوبة الإيمان بقدوم مرحلة ما بعد قسد، عينُه على الأميركي، ويحاول تعزيز علاقته مع النظام مجدداً.

ومعظم الجمهور العربي يتحيَّن الفرصة لعودة النظام كي يثأر مما أصابه، أو على الأقل يشمت بقيادات قسد الكردية.

وقسم آخر من الجمهور غير جاهز لدفع فواتير كثيرة تحضر بعودة النظام، أولها الخدمة العسكرية وليس آخرها ما تراكم من تقارير عند أفرع المخابرات. ومعظم هذا الجمهور يعي جيداً صعوبة الاندماج ثانية مع سلطة النظام وطبيعته المتوحشة.

أما السوريون الذين يعيشون في مناطق هيئة تحرير الشام؛ فيعلمون أن الحل في منطقتهم هو الأصعب، لأسباب تتعلق بإيديولوجيا الهيئة ذاتها، وموقف النظام السوري، وكذلك موقف الروس وإيران والمجتمع الدولي منها؛ لذلك يبنون حياتهم على المدى الطويل، ويدركون أن موقف المدنيين في المناطق التي تحكمها إيديولوجيا دينية موقف مغيَّب كلياً، وأن تفكيك تلك الحركات هو الأصعب لأنها لا تحبِّذ كثيراً فكرة التفاوض، بل تميل إلى فكرة المنتصر أو المهزوم!

أما معارضة الخارج المتمثلة بالائتلاف وهيئة التفاوض وسواهما فهي رهينة الدول المستضيفة، التي تدفع رواتبها الشهرية

وقد قام قائد الهيئة في الفترة الأخيرة بعدد من الخطوات تجاه ما يدعى بالأقليات الدينية في محاولة لإضفاء مظاهر مدنية على نمط الحياة، ومحاربة الشريحة الأكثر تشدّداً. وهو يعي أن الوضع بات في مرحلة ما بعد النزاع التي تتطلب سياسة مختلفة وتنازلات صعبة. نمط الحياة ومؤسسات الحكومة هناك ذات طابع ديني غالباً، غير مرحِّبٍ بالآخر المختلف، ومن الصعب تفكيك هذا النمط من الحركات ذات الأسس الجهادية إلا عسكرياً، أو من خلال اتفاقات دولية وضمانات في مرحلة ما بعد النزاع.

أما معارضة الخارج المتمثلة بالائتلاف وهيئة التفاوض وسواهما فهي رهينة الدول المستضيفة، التي تدفع رواتبها الشهرية ومنحت عدداً من قادتها الجنسية. تتقاطع غالباً مواقفها مع طروحات الدولة المستضيفة، وتدرك أن أمامها مساحات ضيقة دولياً عنوانها: التخلي عن الملف السوري، والضيقُ به لأنه ملف مستعص، يكشف عجز الدول عن إيجاد حل سياسي أو سواه.

أما السوريون اللاجئون في الدول الأخرى فمعظمهم مشغول بشؤونه الشخصية وجنسيته الجديدة، ومساعدة أهله مادياً. ولم ينتجوا أشكالاً سياسية فاعلة، تؤثِّر في دولهم الجديدة، أو الداخل السوري.

هناك حراكٌ هنا وهناك، لكنه مشتَّتٌ ومتباين الاتجاهات والقوى، لا يحقِّق الحدود الدنيا من الانسجام. لا نقولُ الاتفاق أو التطابق، وهذا المشهد عنوانه: السوريون يأكلون الحصرم، ويضرسون كذلك!

المصدر تلفزيون سوريا
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل