جوى ياسين وغيرهما من الأسماء التي بتنا نسمعها كثيرا في الأيام الأخيرة والتي ترتبط بجرائم ساديّة بشعة تدمي القلب وتزيد على مأساتنا اليومية مآسيَ أخرى. وحوش بشرية تعتدي جنسيا على أطفال وتسرق براءتهم وحياتهم لإرضاء رغباتهم وشهواتهم الدنيئة، وأقل ما يقال عنهم أنهم ” مرضى”. لكن هل يمكن اختصار القضية فعلا بهذا الشكل؟ بالتأكيد لا .
الاعتداء الجنسي على الأطفال ظاهرة قديمة في سوريا، وتنتشر في كامل المناطق الجغرافية بغض النظر عن خرائط السيطرة وقوى أمر الواقع التي تحكم الجغرافيات والمجتمعات المحلية الآن. نسمّيها ظاهرة لأنها تتجاوز مسألة “الحوادث الفردية” المعزولة التي يحاول الخطاب السياسي، المجتمعي، وكذلك الديني حصرها بها من خلال التركيز على شخصية المجرم والضحية دون دراستها في سياق أبعد وبشجاعة أكبر، ولكونها “ظاهرة” فلا يوجد سبب واحد مفسِّر لها، إذ تتنوع مداخل تفسيرها ما بين الأسباب السيسو-اقتصادية الناجمة عن الفقر، وتأخر الزواج، وما ينتج عن ذلك من غياب التعليم وتحلل المجتمع وانتشار المخدرات والجريمة، خاصة في الفترات التي تغيب فيها سلطة الدولة وتتحول الأخيرة إلى “خصم” لشرائح كبيرة من المجتمع لتحلّ محلها إدارات ذاتية، ومحلية غير منظمة رافِعتُها “القبضايات”، و” الشبيحة”، والفصائل المسلحة غير المنضبطة.
وتأتي الأسباب السيكولوجية كعامل محرّض لانتشار هذه الظاهرة، وهي لا تتعلق فقط باضطرابات وعوارض نفسانية تخصّ ذاتية الفرد الجاني، بل تتوسع إلى عوامل سيكولوجية تتعلق بالاغتراب السياسي والاجتماعي وغياب وعي الانتماء إلى جماعة مواطنية وتأثير ذلك على زيادة النزعة الفردانية التي تبرر لنفسها هذه الأفعال بأشكال مختلفة كالانتقام وما إلى ذلك. وما يفاقم هذه الظاهرة وجود “تصالح” مجتمعي غير مرئي معها رغم الغضب الشديد المؤقت الذي تثيره الحوادث المكشوف عنا، ويبرز ذلك في صور مختلفة لعل أخطرَها هو النكتة من قبيل “فرجيك على الأرانب” ..” اقلبْ أنت في ..”، “أنتم في قلوبنا وأطفالكم في أحضاننا”، ” طارق ولد.. اسم محافظ X” .. ” الصيت لـ X والفعل لـ Y” وما يرافقها من استسهال في إطلاق نعوت مثل “صبينجي” و “بيلحق ولاد” دون أن يراجع عقل السامع الفعل الخطير الذي يقوم به المنعوت.
الاعتداء الجنسي على الأطفال في سوريا يسجّل زيادة مطّردة منذ تسعينيات القرن الماضي، كما أنها ظاهرة “مدينيّة” تكثر في المدن ومراكز الأطراف أكثر منها “ريفيّة”.
ومع وجود هذه الظاهرة سابقا كما قلنا، فإن الاعتداء الجنسي على الأطفال في سوريا يسجّل زيادة مطّردة منذ تسعينيات القرن الماضي، كما أنها ظاهرة “مدينيّة” تكثر في المدن ومراكز الأطراف أكثر منها “ريفيّة”. انطلاقا من ذلك، يذهب البعض إلى فحص دور أنماط التدين (أنماط التدين تختلف عن الدين وتعاليمه) وتطورها والأثر الذي تتركه على الغرائز والميول الجنسية. لا أحد يفهم على سبيل المثال لماذا تزداد حوداث الاعتداء على الأطفال في أماكن ومناطق تتطرف في الفصل التام بين الجنسين كما جرى في الفضائح الأخيرة للكنيسة الكاثوليكية في فرنسا أو في المناطق السورية تحت سيطرة الفصائل الدينية شيعية كانت أو سنية، أو في الدول التي تتبنى أنماط تدين سلفية قاسية تقوم على الفصل التام بين الجنسين في العائلة، والمدرسة، والعائلة، والشارع، والعمل.
ولا مبالغة بالقول إن “الفصل التامّ” شأنه شأن نقيضه “الإطلاق التامّ” يؤدي إلى نتائج خطيرة في هذا الشأن، خاصة إذا غاب الإطار والرادع القانوني والأخلاقي وغاب الوعي.
باختصار، من غير المقبول بعد الآن مقاربة هذه الظاهرة بوصفها حوادث فردية لكونها تتكرر دائما، إذ أضحتْ ظاهرة تستدعي التوقفَ عندها والتفكير مليّا في أسبابها وطرق مواجهتها.
Sorry Comments are closed