يُستنتج من الأخبار غير الرسمية الواردة من حلب أن اللبناني، الغنيّ عن التعريف، نوح زعيتر قد زار المدينة مرتين خلال هذا الصيف، أو بقي فيها ما يقارب الشهر. حيث كان أول الأخبار عن زيارته المدينة، مدعماً بالصور، في نهاية شهر تموز، ثم انتشرت دفعة جديدة من الصور قبل ستة أيام متأخرةً عن موعد التقاطها بنحو أسبوع. المذكور لقي حفاوة علنية من مضيفيه، والمرة الثانية “قبل حوالى أسبوع” هي التي أثارت الضجة والمخاوف الحالية، لأنها اقترنت بالحديث عن لقائه بعدنان محمد السيد؛ نائب قائد فيلق القدس في حلب ذي السطوة الكبرى في المدينة.
الإعلان عن المخاوف أتى من صفحات شخصية على مواقع التواصل، ومن الموقع الرسمي لـ”مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا”، إذ نقل الموقع بتاريخ 28/8/2022 اتهامات من أهالي مخيم النيرب-حلب للواء القدس بأنه متورط في دعم شبكات ترويج المخدرات داخل المخيم. قد يكون للمخيم وضع خاص مع لواء القدس بسبب موقعه الجغرافي القريب جداً من مطار حلب، إلا أن معاناة أهاليه مع انتشار المخدرات ليست استثناء مما يسود في المدينة ككل، أو من السائد سوريّاً من دون أن نخشى إطلاق هذا التعميم.
قيل وكُتب الكثير عن أخطار المخدرات المصدَّرة من سوريا إلى الجوار والعالم، ونُشرت أرقام قياسية عن حجم تجارة المخدرات التي تتم بإشراف سلطة الأسد، مع شركاء لبنانيين على الأرجح. في المقابل، لا معطيات بالأرقام عن حجم تجارة المخدرات داخل سوريا، ونفتقر إلى الأبحاث والدراسات المتصلة بتعاطي المخدرات بين السوريين، ودور المخدرات في الحرب السورية.
صار شائعاً أن عائدات تجارة المخدرات خارجياً ترفد سلطة الأسد بالأموال الضرورية، لكن ما بدأ منذ قرابة عشر سنوات أن بعض تنظيمات الشبيحة صار يدفع جزءاً من رواتب المنتسبين بالمخدرات. مثلاً، صارت عروض التطوع للقتال تتضمن البدل النقدي، وفوقه مخصصات استهلاك المقاتل من المخدرات وأيضاً من المشروبات المنشِّطة. وصارت مألوفة، في مناطق سيطرة الأسد آنذاك، رؤية الشبيحة الذاهبين إلى الجبهات في سيارات الدفع الرباعي، وهم يتجرعون المشروبات المنشطة ويلقون بالعلب الفارغة من النوافذ.
انتشار المخدرات في صفوف المقاتلين سبق بشهور ظهورها إلى العلن من ضمن الحوافز العينية التي يحصلون عليها، وكذلك هو حال المشروبات المنشّطة والمنبهة. منذ صارت الحرب واقعاً لا تُعرف نهايته، بدأ استهلاك الاثنين في صفوف المقاتلين، والغاية هي بقاء الجسد صاحياً، متنبّهاً نشيطاً، لساعات طوال، وفي الوقت نفسه إعطاء العقل ساعات أطول للنوم.
المرابطة على جبهة يصعب فيها تخمين نوايا “العدو”، ومتى يقرر الهجوم، تتطلب معادلة الجسد الصاحي والعقل النائم لأسباب فيزيائية محضة، وأيضاً لأن يقظة العقل تعني فيما تعنيه يقظة الخوف من القتل. والخوف من القتل يتفرع إلى خوفين، أولها الخوف من الوقوع ضحية، وثانيهما الخوف من ارتكاب فعل القتل. بالإدمان على المخدرات والمنشطات معاً يتم التغلب على المخاوف، ولا يندر أن يبدع من تجاوزوا مخاوفهم ويجترحوا صنوفاً متميزة من الوحشية.
بالطبع ليست هذه الخلطة هي المسؤولة عن أعمال العنف والوحشية المرتكبة في سوريا، إلا أنها سهّلت ارتكابها على جمهور أوسع لم يكن مهيّاً لذلك. وقد تعمّدنا استخدام كلمة مقاتلين في الإشارة إلى هذه الشريحة لأنها تؤدي المعنى التقني المقصود، ولأن ما بدأ في صفوف قوات الأسد وبين شبيحته سيأخذ طريقه إلى فصائل معارضة، وإن لم يكن بالمثل له طابع ممنهج.
الحديث هنا عن مقاتلين قضوا سنوات طويلة من حرب الاستنزاف التي فقدت في العديد الأحيان هدفها الأول، وصار من “المنطقي” أن يلجأ هؤلاء إلى المخدرات والمنشطات للمساعدة على تحمّل الظروف القاسية. والحديث هنا في سياق التوصيف ليس إلا، وقد شهدنا تبادلاً في الاتهامات بين هذه الفصائل، أو اتهامات موجّهة لأفراد وقيادات بجني أرباح من تجارة المخدرات. كان بعض الاتهامات قد طال قسد أيضاً، من زاوية وجود مزارع للحشيش تحت سيطرتها، بينما أشار العديد من التقارير إلى انتشار ظاهرة الإدمان في مناطق الإدارة الذاتية أسوة بغيرها.
ستتوسع باضطراد شريحة السوريين الذين يعانون من قسوة الحرب، وسيكسب تجار المخدرات زبائن جدداً، سيكون من بينهم شباب فاقد لأي أمل وجاهز للقتال بلا أي هدف. إنها واحدة من الدوائر الجهنمية للمقتلة السورية، والتي تنأى عن المنطق للوهلة الأولى بحسب ما هو شائع عن كلفة تعاطي المخدرات. إلا أن وفرة المخدرات، والقدرة على الاتجار بها بحماية أعلى مستويات السلطة، تجعلان من الحصول عليها سهلاً لجهة التكلفة ولجهة عدم الخوف من تهمة التعاطي، بل إن الحديث الشائع يدور عن تسهيلات ضخمة ومتعمدة تخدم اقتصاد المخدرات المتصل على نحو وثيق باقتصاد الحرب.
على المستوى العام أيضاً، ستتوسع الحاجة إلى المنشطات جنباً إلى جنب مع رواج المخدرات. واحد من النتائج النمطية المعروفة يتعين بازدياد الطلب على المنشطات الجنسية، لإقامة التوازن مع الآثار الجانبية لتعاطي المخدرات، لكن ذلك لن يكون بلا جرح نفسي يقع ضحيته أولئك الشبان، ومن ثم يتسبب في رفع منسوب العنف لديهم، وقد يكون العنف بأشكال عديدة وموجهاً للعموم، غير أن للنساء حصة مركزية منه.
إن بيئة من رواج المخدرات هي الأنسب لنقل العنف من جبهات القتال إلى المجتمع ككل، والروادع التي تحول دون انفلاتٍ أعمى للعنف ما تزال تلك الموروثة من حقبة سابقة، بما فيها الموروثة من مجتمع سابق لم يعد موجوداً اليوم. طوال أربعة عقود، كانت سوريا تُصنَّف بلد عبور للمخدرات، مع تدنٍّ ملحوظ في الاستهلاك بالمقارنة مع العديد من الدول العربية. في العقد الأخير حصل الانفجار الكبير على صعيد الاستهلاك، ليكون بمثابة التوأم الخفيّ للحرب.
المخاوف التي أُعلنت في الأيام الخمسة الأخيرة تعبّر عن واقع تجاوز منذ زمن طويل مدينة حلب، وهي لم تكن سبّاقة في الإصابة به. هذا الواقع تجاوز أيضاً ما يوحي به التشكّي الأخير من اللقاء بين نوح زعيتر ونائب قائد لواء القدس في حلب، وربما يكون الأقرب إلى الصواب الظنّ أن هذا اللقاء قد حدث منذ أمد بعيد!
Sorry Comments are closed