بين صيف 2013 وصيف 2022، تظهر مجددا المخاوف من وجود إدارة أميركيّة من النوع الذي لا يريد معرفة ما يدور في سوريا… ومعنى التوصل إلى اتفاق في شأن الملف النووي الإيراني من دون التطلع إلى أمور أخرى في غاية الأهمّية والسعي إلى معالجتها. في مقدم هذه الأمور سلوك “الجمهوريّة الإسلاميّة” خارج حدودها وتسببها بمصائب في عدد لا بأس به من الدول العربيّة، بما عاد بالويلات على شعوب عدّة وعلى الاستقرار الإقليمي والدولي في الوقت ذاته.
ثمّة أحداث تستأهل التوقف عندها لدى محاولة السعي إلى فهم ما يدور في أيّامنا هذه في المنطقة والعالم، خصوصا بعد إقدام فلاديمير بوتين على خطوة غزو أوكرانيا قبل ستة أشهر، في الرابع والعشرين من شباط – فبراير الماضي.
من بين هذه الأحداث تراجع إدارة باراك أوباما في آب – أغسطس من العام 2013 عن توجيه ضربة حاسمة إلى النظام السوري الذي كان في حال يرثى لها. كان النظام في مثل هذه الحال إثر فشل الميليشيات الإيرانيّة في ردّ الهجمات التي كانت المعارضة الشعبيّة تشنها على معاقله في دمشق نفسها.
لجأ النظام وقتذاك إلى السلاح الكيمياوي في غوطة دمشق في تحدّ مباشر للرئيس الأميركي باراك أوباما الذي حذره من تجاوز “الخطوط الحمر”. فجأة، لم يعد أوباما يرى اللون الأحمر ولا الآلاف من ضحايا النظام من أبناء الشعب السوري. تراجع عن تنفيذ عملية عسكرية كانت كفيلة بإسقاط النظام الأقلّوي، الذي ليس سوى آلة قتل وتعذيب، والذي يشنّ حربا شعواء على شعبه.
تبيّن مع مرور الوقت أنّ إدارة باراك أوباما كانت في مفاوضات سرّية مع ايران في شأن ملفّها النووي. خشيت أن يتسبب إسقاط النظام السوري في إزعاج لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” يؤدي إلى وقفها المفاوضات. في الواقع، استطاعت إيران، بممارستها الابتزاز، وقف العملية العسكرية الأميركيّة في سوريا. استطاعت بدعم من فلاديمير بوتين إنقاذ بشّار الأسد والسماح له بالبقاء في دمشق. وجد بوتين مخرجا لأوباما بطرحه فكرة التوصّل إلى التخلص من مخزون الأسلحة الكيمياويّة لدى النظام السوري. جرى بالفعل التخلّص من القسم الأكبر من هذا المخزون. جعلها ذلك تلجأ إلى سلاح البراميل المتفجرة بديلا من الكيمياوي. خلاصة كلّ ما جرى أنّ إدارة أوباما كانت تتمتع بسذاجة كبيرة، خصوصا بعدما اعتبرت أنّ الملف النووي الإيراني يختزل كل أزمات الشرق الأوسط والخليج.
ثمّة أحداث تستأهل التوقف عندها لدى محاولة السعي إلى فهم ما يدور في أيّامنا هذه في المنطقة والعالم، خصوصا بعد إقدام فلاديمير بوتين على خطوة غزو أوكرانيا قبل ستة أشهر
بعد مرور عامين على استخدام السلاح الكيمياوي في غوطة دمشق وقتل المئات من السوريين، وقّعت إيران مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا الاتفاق في شأن ملفّها النووي. سمح لها ذلك بالحصول على المليارات من الدولارات التي موّلت بها ميليشياتها في المنطقة، بما في ذلك مشاركتها في الحرب على الشعب السوري. الأهمّ من ذلك كلّه أنّ موقف باراك أوباما وإدارته، التي ما لبث أن استقال منها رجل يحترم نفسه هو وزير الدفاع تشاك هيغل، كشف لروسيا وإيران أنّ في استطاعتهما استباحة دول المنطقة والعالم.
يؤكّد ذلك ذهاب الجيش الروسي في العام 2014 إلى شبه جزيرة القرم بغية استعادتها من أوكرانيا. لم يتحرّك العالم فزادت شهيّة بوتين الذي ما لبث أن بعث بجيشه إلى سوريا في خريف العام 2015 لمنع الانهيار الكامل للنظام الذي كان يتعرّض وقتذاك إلى ضغوط قويّة.
كان التهاون الأميركي مع إيران سببا دفعها في العام 2014 إلى دفع الحوثيين في اتجاه السيطرة على صنعاء وإلى اغتيال الرئيس السابق علي عبدالله صالح، في مرحلة لاحقة، والسعي إلى التوسّع أكثر في محافظة مأرب. لم تجد إيران في ظلّ الميوعة الأميركيّة مشكلة في التوسّع في سوريا، بما في ذلك في دير الزور وحلب ومحيطهما وفي الجنوب السوري طبعا. لم تجد إيران عائقا في جعل ميشال عون، مرشّحها إلى رئاسة الجمهورية اللبنانيّة، يصل إلى قصر بعبدا. صارت “الجمهوريّة الإسلاميّة” تقرّر من هو رئيس الجمهورية المسيحي في لبنان!
يتكرّر مشهد التراجع الأميركي أمام إيران صيف العام 2022 في ظلّ اندفاع نحو إعادة الحياة إلى الاتفاق في شأن ملفّها النووي، وهو اتفاق مزقه الرئيس دونالد ترامب في العام 2018. لا تجد إدارة جو بايدن مشكلة في صفقة أميركيّة – إيرانيّة من دون طرح سؤال في غاية البساطة: ما الذي ستفعله ايران بالأموال التي ستحصل عليها بموجب هذه الصفقة الجديدة التي أسّس لها التساهل مع بشّار الأسد لدى استخدامه السلاح الكيمياوي في حربه على الشعب السوري؟
الأكيد أن النظام في إيران لن يستخدم هذه الأموال من أجل التخفيف من معاناة الشعب الإيراني الذي يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر. ما يغيب عن بال إدارة بايدن أنّ “تصدير الثورة” ما زال شريان الحياة بالنسبة إلى النظام الإيراني الذي يبدو همّه محصورا بالحصول على المال بعد رفع العقوبات عنه.
ليس ما يشير إلى استعداد أميركي لتعلّم شيء من دروس الماضي، خصوصا من التهاون مع ايران. في النهاية تبدو إدارة جو بايدن تكملة لإدارة باراك أوباما. لم يسمع أحد أن بايدن اعترض يوما على أيّ قرار لأوباما عندما كان نائبا للرئيس طوال ثماني سنوات…
لا يزال استخدام النظام السوري للسلاح الكيمياوي وغياب الرد الأميركي، مسايرة لإيران، حجر الزاوية لدى إدارة أميركية ترفض استيعاب معنى ذلك وأبعاده. ترفض الإدارة، على وجه الخصوص، استيعاب معنى غياب الربط بين الاتفاق النووي مع إيران وسلوكها خارج حدودها وتحويلها العراق وسوريا واليمن إلى دول تدور في فلكها… حتّى لو كان ثمن ذلك خلق تهديد مباشر لحلفاء أميركا في الخليج.
هل تستطيع أميركا طمأنة حلفائها؟ الجواب أنّ اتفاقا من النوع الذي تنوي إدارة بايدن توقيعه مع إيران لا يفيد في ذلك. كلّ ما في الأمر أنّه صفقة وليس اتفاقا وتتمة لما بدأ في عهد أوباما صيف 2013 لا أكثر ولا أقل.
عذراً التعليقات مغلقة