يعيش العراق منذ انتخابات تشرين الأول/أكتوبر الماضي، في ظل شلل سياسي من دون رئيس جديد للجمهورية ومن دون حكومة جديدة. وفي تفاقم للأزمة السياسية الحادة، تقف قوتان سياسيتان وجهاً لوجه في بغداد: الإطار التنسيقي يعتصم على أسوار المنطقة الخضراء المحصنة، مقابل اعتصامٍ آخر يقيمه مناصرو التيار الصدري داخل البرلمان.
مصلحة إيران في “عراق مستقر”
لم تتطور المواجهة المفتوحة على جميع الاحتمالات منذ تموز/يوليو إلى أعمال عنف، حتى تاريخ إعداد هذا التقرير اليوم الثلاثاء (16 آب/أغسطس 2022) -على الأقل.
وترى مديرة “مؤسسة فريدريش إيبرت” في العراق، سارة هيب، أن احتكام الأطراف المتخاصمة إلى الشارع “تطور مقلق للغاية”. وتستبعد الخبيرة السياسية ومديرة المؤسسة الألمانية المقربة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي في تصريح لـ DW حصول أي تصادم قبل منتصف أيلول/سبتمبر المقبل على الأقل: “يجب ألا ننسى أننا في شهر محرم… بعد انقضاء الشهر قد تصبح الأمور أقل سلمية”.
ضياء الشكرجي، وهو سياسي ليبرالي علماني ذو موقف نقدي من الأجواء الطائفية في السياسة العراقية، يعلق في تصريح لـ DW عربية على إمكانية حصول تصادم مسلح: “ليس هذا مستحيلاً، لكني أتصوره مستبعداً جداً، لأن كلا الطرفين يعرفان أنهما سيخسران: من يتحمل مسؤولية البدء بالاقتتال، سيدفع الثمن بأن تزداد نقمة الشعب ضده ويخسر مزيداً من الأصوات”.
ويردف السياسي الثمانيني المقيم في مدينة هامبورغ الألمانية: “بالنسبة للإطار (التنسيقي) لن يخالف توجيهات النظام الإيراني الذي لا يرغب بحصول اقتتال شيعي شيعي، لأنه يرى مصلحته في عراق مستقر”.
وذهب خبراء آخرون في نفس الاتجاه ويعتقدون أن إيران، الحليفة النافذة لخصوم الصدر، تعارض التصعيد.
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد إحسان الشمري أن طهران “تمنع ذهاب الإطار التنسيقي وبالتحديد الفصائل المسلحة نحو رفع سقف المواجهة باتجاه الصدام”. وتعتبر إيران أنه ما زال من الممكن إيجاد “حلول سياسية”، وفق الشمري، “لكن إذا ما اندلع القتال فمن الصعب السيطرة على السلاح الذي يمتلكه الطرفان”.
ويضم الإطار التنسيقي عدة قوى شيعية أبرزها كتلة دولة القانون برئاسة رئيس الوزراء الأسبق، العدو التاريخي لمقتدى الصدر، نوري المالكي، وكتلة الفتح الممثلة للحشد الشعبي، وهي تحالف فصائل مسلحة موالية لإيران.
بدأت الأزمة الحالية منذ الانتخابات الأخيرة في تشرين الأول/أكتوبر 2021، وكانت انتخابات مبكرة نظمت بهدف تهدئة احتجاجات شعبية مناهضة للطبقة السياسية هزت العراق في خريف العام 2019. نال التيار الصدري 73 مقعداً، ليصبح الكتلة الأكبر تمثيلاً في البرلمان الذي يضمّ 329 نائباً.
وأراد رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، مع حلفائه من السنة والأكراد، تسمية رئيس الحكومة وتشكيل حكومة “أغلبية وطنية”. لكن ذلك قوبل بالرفض من قبل خصومه في الإطار التنسيقي الذي يضم فصائل موالية لإيران. وكان مطلب الإطار التنسيقي الحفاظ على الحل التوافقي التقليدي بين كافة أطراف “البيت الشيعي”.
وتصاعدت الأزمة مع رفض التيار الصدري لترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة.
مخرج دستوري؟
للضغط على خصومه، دفع الصدر الذي اعتاد على اتخاذ خطوات مفاجئة، نوابه للاستقالة من البرلمان في حزيران/يونيو الماضي. وطالب الصدر القضاء بحل البرلمان خلال مدة أقصاها نهاية الأسبوع، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة.
ورد عليه مجلس القضاء الأعلى، أعلى سلطة قضائية في البلاد، الأحد في بيان إنه “لا يملك الصلاحية لحل مجلس النواب”. وأضاف أن “مهام مجلس القضاء…بمجملها تتعلق بإدارة القضاء فقط وليس من بينها اي صلاحية تجيز للقضاء التدخل بأمور السلطتين التشريعية أو التنفيذية تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية” الوارد في الدستور.
وطلب مجلس القضاء الأعلى من “الجهات السياسية والإعلامية” عدم “زج القضاء في الخصومات والمنافسات السياسية”، مؤكداً أن القضاء “يقف على مسافة واحدة من الجميع”.
وينصّ الدستور العراقي في المادة 64 منه على أن حلّ مجلس النواب يتم “بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بناءً على طلبٍ من ثلث أعضائه، أو طلبٍ من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية”.
السياسي العراقي، ضياء الشكرجي، الذي كان في لجنة كتابة الدستور العراقي ووقف ضد إضفاء صبغة طائفية شيعية على الدستور، حسب قوله، يرى أن “المحكمة الاتحادية العليا (قد تستطيع إيجاد) مخرج عبر تأويل النصوص الدستورية ذات العلاقة، لعدم وجود مادة واضحة تخولها بذلك، هذا إذا أرادت أصلاً الاستجابة لطلب الصدر”. والمحكمة الاتحادية العليا مختصة في الفصل في النزاعات الدستورية.
وأمس الاثنين بحثت ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة رئيسة بعثة الأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت مع رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي فائق زيدان، معالجة الإشكاليات القانونية للأزمة السياسية في البلاد.
وذكر مجلس القضاء الأعلى في بيان صحفي، أن بلاسخارت وزيدان ناقشا في اجتماع بمقر المجلس في بغداد “دور القضاء العراقي في معالجة الإشكاليات القانونية التي تخص الأزمة السياسية التي يشهدها العراق”.
أين السنة والأكراد؟
قام هادي العامري رئيس تحالف الفتح، أحد أبرز فصائل الحشد الشعبي، في الأيام الأخيرة بسلسلة لقاءات مع حلفاء للصدر من السنة والأكراد، خصوصاً رئيس البرلمان محمد الحلبوسي وعدد من القيادات السنية. وقام العامري الاثنين بجولة في إقليم كردستان والتقى قادة الحزبين الكرديين الكبيرين، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديموقراطي الكردستاني.
يعلق ضياء الشكرجي على ما يمكن أن تتمخض عنه أي جهود غير شيعية لحل الأزمة: “لا أتصور أن بيد السنة والأكراد أي ورقة يمكن أن يعول عليها للضغط على أي من الطرفين. لكن بالنسبة للديمقراطي الكردستاني يمكن أن يضغط باتجاه القبول بحل مجلس النواب، والذهاب إلى انتخابات مبكرة أخرى، لاحتمال أنه لن يتراجع في الانتخابات المقبلة، بعكس الطرف السني، لاسيما الحلبوسي، لخشيته أن تنحسر الأصوات التي سيحصدها، وبالتالي يخسر رئاسة مجلس النواب”.
ولا ترى مديرة “مؤسسة فريدريش إيبرت” في العراق، سارة هيب، “أي بوادر تقارب لإيجاد أي مخرج سلمي، مع اعتقادها بأن كل الأطراف تبحث ظاهرياً عن حل سلمي. وتضيف أنه لا يوجد أي تصور عند أي طرف فاعل أو خارجي لمضمون وشكل الحل السلمي”.
بيد أن الأستاذ المساعد في جامعة كوبنهاغن فنر الحداد المختص بالشأن العراقي يذكّر بأن “السياسة العراقية غالباً ما تصل إلى نقطة اللاعودة قبل أن تقرر الأطراف المعنية حل خلافاتها خلف الأبواب المغلقة”. لا يستبعد الحداد اتفاقاً بين المعسكرين، معتبراً أن تكليف “رئيس وزراء توافقي، لا يزال السيناريو الأكثر إمكانية للتحقق”.
يجري كل ما سبق في بلد نسبة البطالة بين الشباب فيه تبلغ نحو 35%، وفق تقرير لمنظمة العمل الدولية في 2021. وبينما يشكل النفط 90% من إيراداته، يعاني العراق انقطاع الكهرباء والجفاف. يلخص أحمد طالب القانون (23 عاماً) الوضع: “بلا كهرباء نضطر إلى أن ننام إلى جانب قالب ثلج… لكن الكهرباء لا تطفأ في البرلمان”.
عذراً التعليقات مغلقة