يحدثني صديق مقيم في إسطنبول، لا يحبُّ العابرين، إنه منشغل هذه الأيام في ضبّ حقائبه للرحيل عن إسطنبول، ويتابع: إسطنبول مدينة تحب جيوب السائحين، ولا تفرح بالمقيمين. المقيمون سيعرفون أسرارها وتفاصيلها وسينشغلون بالحسابات وفقدان الدهشة، ويتوقفون عن صرف نقودهم كعابرين.
إسطنبول مكان مثالي للقضايا الخاسرة، معظم سياسييها كذلك لا يحبون المقيمين، يحبون بيع القضايا العابرة وشرائها، يوهمون من يستمع إليهم أنها مصيرية واستراتيجية، لكنهم عند أول ” تكويعة” يتخلون عنها، خبراء متاجرة بالقضايا. وجمهورهم لا يتعلم من دروس الآخرين، يتابع سياسيو إسطنبول أحداث السياسة في العالم فيشترون أكثر القضايا نبلاً في الوقت الضائع، حيث يتخلى عنها كل المضاربين الآخرين. وفي لحظة وهم أن تلك القضية ارتفع ثمنها بحيث غدت غير قابلة للبيع ومصيرية وأخلاقية ودينية، يبيعونها بصفقة سرية سريعة، أقرب لهدف ضربة الجزاء في كرة القدم، فيخسر كل من يحب أن يسند ظهره إلى حيطان أسوار أدمنت استقبال الفاتحين والترحيب بهم. وفي اليوم التالي يخرج محللون يلومون الحالمين كيف أنهم صدقوا أولئك التجار.
كل مدينة أو دولة تستمد قوتها أو حضورها أو رمزيتها من عناصر محددة، إسطنبول تستمد كثيرا من رمزيتها من كونها محطة عبور بكل أخلاقيات العابرين، وهل من شخص لا يدرك الفرق بين العابرين والمقيمين، كثيرٌ منا يحبُّ العابرين والعابرات أكثر من المقيمين والمقيمات.
وفي حين يضبُّ ذلك الصديق حقائبه استعداداً لسفر يأمل أن يكون نهائياً، لأنه يريد أن يطوي هذه الصفحة من عمره بكل ما فيها، بمن فيهم معظم من تعرف إليهم، يقول: ليته يكون طريقاً بلا عودة، أو تذكرة سفر بوجهة واحدة من إسطنبول إلى باريس مثلاً!
كم تمنى هذان الصديقان أن يعيشا في مدينة واحدة: ينظران إلى بعضهما وهما يجلسان في مقهى إسطنبولي على ضفاف البوسفور: هكذا قدرنا، سيسافر أحدنا ويعود الآخر
يهمُّ صديقي بتسليم بيته إلى صديق عائد من دولة أوروبية، وعمل في أكثر من جامعة فرنسية، يعتقد أن إسطنبول مكان تحقيق أحلامه ومشاريعه وأفكاره. الأمكنة أشخاص، والأشخاص ليسوا عدداً بل من نشبههم ويشبهوننا، ليس إلى حد التطابق، بل بطريقة التفكير أو النقد أو قراءة الظواهر أو نقدها أو ممن قد نتشارك معهم مفاهيم الحب أو اللباس أو الطعام أو “الشلي”.
كم تمنى هذان الصديقان أن يعيشا في مدينة واحدة: ينظران إلى بعضهما وهما يجلسان في مقهى إسطنبولي على ضفاف البوسفور: هكذا قدرنا، سيسافر أحدنا ويعود الآخر. ويختمان على أمل: من يدري، قد تعود إلى مدينتي الجديدة أو أعود إلى مدينتي القديمة فألقاك هناك، أو نترك تلك المدن ونعود إلى “دمشقنا” في لحظة سقوط للقابع هناك!
على طاولة مجاورة تجلس صبيتان تتحدثان عن أنماط الرجال ممن تعثرن بهم في إسطنبول، إذ إن لهما علاقة خاصة وفهماً مغايراً للكائن المسمى بـ الرجل. هو الذي تسبب بوجع أو ندبة لم تنفع معها محاولات إخفائها، ولسهولة التعامل معه لا بدّ من نمذجته، ووضعه في قوالب معينة، متى ما حاول هذا الصديق أو ذاك التملص منها يمكن إعادته إليها بشيء من مرونة المعايير.
سنوات طويلة تبادلت خلالها الصديقتان الرسائل والأمنيات، استذكار أيام سوريا الجميلة، التي تسبغ عليها النوستالوجيا كثيرا من الدفء والرغبة للعودة للعيش بها على الرغم من كل ما فيها من توعكات، استذكرت الصديقتان أيام الحارة، رفقة الجامعة وما قبلها وما بعدها، كيف أنهما درستا في مدرستين متقاربتين وكيف تغير وجه مدينتهما نتيجة تحولات سوريا، التي يحاول فريق من الباحثين أن يربطها بحكم ما أو بشخص ما فحسب، ويفوتهم السؤال: أيُّ مدينة في العالم بقيت على حالها؟
في الوقت الذي يفر فيه أهالي إسطنبول ولاجئوها منها تشاء ظروف الحياة أن تحصل تلك الصديقة على فرصة مهمة في إسطنبول بعد تعثر سنوات، مشكلة تلك الفرصة أنها جاءت متأخرة عن زمان العيش مع من تحب في مدينة واحدة، ما الحل إذاً يا إسطنبول؟ لماذا ترحبين بالمقيمين بشكل مؤقت وتمنحيننا فرص حياة في رحابك بعد فوات وقت الانتظار؟
في حين كانت الصبيتان تجلسان لشرب القهوة، ربما الأركيلة أيضاً، مر شرطي إسطنبولي، وسأل جميع مرتادي المكان عن “ثبوتياتهم”، خجل من هاتين الصبيتين، وحاول أن يتجاوزهما، لكنهما بادرتاه بإخراج وثائقهما. وقد تذمرت الصبية القادمة للتو من أوروبا بالقول: هذا لم يحدث معي عبر أكثر من عقد من الزمان هناك!
ردت عليها الصبية الحانقة على إسطنبول، على الرغم من أنها لم تبخل عليها بالوثائق والفرص: إسطنبول لا تحب زائريها، تحب جيوبهم، حاولت أن أبني معها علاقة خاصة لكنها رفضت أن تمنحني ما يربطني فيها.
متى يتوقف السوريون عن السفر، ومتى تغدو الحقائب أصغر، ومتى يولد سفر في العالم بلا وجع، سفر كله فرح، وليس خلفه انتظار، سفر لا يحمل رائحة الرحيل والفقد والغياب، سفر بلا ذكريات مسبقة أو حمولات ثقيلة، سفر دون حجز مسبق أو دموع، أو حقائب.
لم تكن صديقتي تضب لباسها، أو مكياجها أو أحذيتها، حين كانت تضب حقيبتها بل كانت تضب جزءاً من تاريخها، وبذور أمنيات قادمة، تنتظرها أنثى. منعطف كبير يجعل من تلك الحقيبة بداية صفحة جديدة، تغادر بيتها بعد أن تنظفه وترتبه كأنها تستعد لسفر موت محدّد المواعيد. تقول تلك الصبية المتأثرة بجدتها: كانت جدتي إذا نوينا السفر تجهز البيت كأنها لن تراه ثانية، تتوتر أياماً عدة، بل لا تستطيع النوم قبل السفر، والسفر لا يشغل باله بها حين تحين لحظته.
تقول صديقتي: كم كان صعباً حين كنت أضب حقائب زوجي كل فترة، أغسلها وأكويها وأعطرها، أرتبها، أشم رائحتها، أو أسرح في ذكرى مشتركة جمعتها قطعة لباس.
يقول صديق لديه فوبيا من حقائب السفر: أحرقت حقائبي ذات يوم حين عدت من سفر إلى إحدى الدول، لكن ما هي إلا سنوات قليلة حتى عاودت رحلة السفر انطلاقاً من سوريا مجبراً.
وتقول أم فشلت في ضب حقائبها، إنها فضلت أن تسافر بلباسها فقط، وتبكي: كيف لي أن أختصر بيتاً وذكريات عمر بحقيبة، سأبدأ الحياة في المدينة الجديدة دون حقائب، ذلك أهون علي من أن أختار، ماذا أترك وماذا أحمل.
يسرد صديق: حين كنت صغيراً، أدهشني منظر حقيبة السفر الكبيرة تخبَّأت فيها مرة، وكدت أن أختنق حين أغلقتها على نفسي، ولولا مصادفة مجيء أختي إلى المستودع الذي كنت فيه لكان هناك إمكانية أن أختنق، وعلى الرغم من ألم تلك الذكرى القاسية لكنه لا يزال يتمنى أن يسكن حقيبة سفر فيقضي ما تبقى من عمره بين مطارات العالم.
ويقول محبٌّ لحبيبة من أيام العشق الممنوع: ليت جسدي يصغر لأكون أحد سكان حقائب سوق الخجا في دمشق، أضيع في المطارات وتأخذني مسافرة إلى بلاد لا أعرفها. متى أحمل حقيبتي وأعود إلى وجهة أحبها، ومتى أعيش في حارة لا يستعير سكانها حقائبي، التي تشتكي من تراكم الحنين والشوق. حين أسمع عجلات حقيبة سفر تصرُّ على الرصيف أرسل قلبي إليها ليجعل رحيلها قصيراً ودون ألوان، يجب أن تكون حقائب السفر سوداء فحسب، إذ لا يمكن أن يكون السفر ملوناً.
بطون الأمهات حقائب سفر دافئة نرافق فيها أمهاتنا أشهراً تسعة، ومنذ أن نخرج من حقيبة السفر هذه يبدأ ضياع وتشكل، إذ لا ينصح خبراء السفر بأن تكون الحقيبة طرية كقلوب المغادرين بل قاسية، كي لا تتكسر حين يحملها عمال المطارات، أو تشيح عيون الأحبة عنها.
لم ألتق بسوري يعيش في تركيا إلا ويفكر بالرحيل، بعيداً عنك؛ فمعظمهم لم يأت إلا مضطراً، وهارباً من الحاجة أو الذل أو الخوف، وراغباً بالأمان، الأمان فحسب يا إسطنبول، هل تعلمين ما هو الأمان؟
حياة السوريين في السنوات الأخيرة أقرب ما تكون إلى حقيبة سفر، ورحلة لا نهاية لها، كثيرون يحتفظون بحقائبهم كي يملؤوها ويعودون إلى دمشق سريعاً. وفي الوقت نفسه يحمل سوريون آخرون هاربون من جحيم الدول المجاورة لسوريا حقائب صغيرة على ظهورهم، يضعون فيها طعاماً قلَّ وزنه وعلت قيمته الغذائية، على أمل أن تكون تلك الرحلة الأخيرة نحو أوروبا، بعيداً عن إسطنبول التي رفضتهم ويردّد سياسيوها مع كل فجر، إلى بلوغ لحظة الانتخابات بعد نحو العام: ارحلوا عني! فهل سيفعلها معظم السوريين القادرين على ذلك في لحظة تحدّ أم سيكابرون ويصبرون؟
مهلاً إسطنبول علينا نحن السوريين، فأنا لم ألتق بسوري يعيش في تركيا إلا ويفكر بالرحيل، بعيداً عنك؛ فمعظمهم لم يأت إلا مضطراً، وهارباً من الحاجة أو الذل أو الخوف، وراغباً بالأمان، الأمان فحسب يا إسطنبول، هل تعلمين ما هو الأمان؟
الأمان هو هذا الذي سلبه عسسك وأبناؤك من معظم السوريين المقيمين في حاراتك وأزقتك، فتحول معظمهم إلى مذعورين منك، يشتكون من قسوتك، بعد أن حسبوا أنك آمنة دافئة!
Sorry Comments are closed