علي حيدر.. موت جنرال سوري مشهور بالوحشية

فريق التحرير11 أغسطس 2022آخر تحديث :
ترجمة: أحمد عيشة
اللواء علي حيدر كان أحد أكثر الضباط إجراما وقسوة في فترة حكم حافظ الأسد

قلّة انتبهوا الأسبوع الماضي إلى موت الجنرال علي حيدر (90 عامًا) أحد مهندسي الجهاز الأمني سيئ السمعة لنظام الأسد.

في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لاحظ روّاد المساجد في أعلى قرية في الجبال العلوية في غرب سورية أن هناك رجلًا مُسنًّا ذا بشرة داكنة وشارب كثيف يجلس في الزوايا، ويحضر بانتظام خطب الجمعة. كان إمام المسجد في قرية (حلة عارا)، في جبلة، يسلّمه أحيانًا الميكروفون في نهاية الخطبة، للتحدث إلى المصلين. كان ذلك الرجل يبشّر بالروحانية والدين، وكأنه قضى حياته كلّها في قراءة القرآن الكريم وحفظه. هذا الرجل هو علي حيدر، وهو جنرال متقاعد من الجيش السوري العلماني الذي ساعد حافظ الأسد في الاستيلاء على السلطة عام 1970.

علي حيدر يتحدث إلى باسل الأسد – وسائل التواصل الاجتماعي

لمدة 25 عامًا، كان حيدر أحدَ أكثر الضباط رعبًا وقسوة، بعد أن شن حروبًا عديدة خلال حياته، ضد إسرائيل والفلسطينيين والكتائب اللبنانية والفرع السوري لجماعة الإخوان المسلمين المصرية. هو متقاعد اليوم، أو بالأحرى مُسرّح، وقضى مدة تقاعده في المسجد المحلّي في قريته الأصلية، بعد أن قيل إنه أصبح متدينًا بشدة. وتوفي حيدر يوم الجمعة في قريته عن عمر بلغ 90 عامًا.

خارج سورية، قلّما انتبه أحد إلى وفاة حيدر، على الرغم من دوره الرئيس في كثير من الأحداث الإقليمية وفي عديدٍ من الحروب بسوريا الأسد. في سورية، يتذكر معارضو النظام البعثي الجنرال حيدر، باعتباره أحد مؤسسي الدولة الوحشية والقمعية، وقد أشاد به أنصار النظام كبطل يمثّل حقبة ماضية للضباط الفعالين الذين أبقوا سورية متماسكة.

يحتفل أنصار النظام بإرثه كعضو في الحرس القديم، منذ العصور القديمة الجيدة عندما كانت سورية مستقرة وآمنة ومعترفًا بها دوليًا. يقول الشبان العلويون (من طائفة الأقلية الدينية المسلمة التي ينتمي إليها الأسد) في تأبينه إنه “والد القوات الخاصة”، وهي قوة كانت ذات يوم جبّارة، لكنها باتت في الآونة الأخيرة مهمّشة أمام الحرس الجمهوري الأكثر قوة وأمام الفرقة الرابعة. ترتبط القوات الخاصة بالانتصارات، في السبعينيات والثمانينيات ضد الإسلاميين، وليس في هذه الحرب الحالية، وفي عهد الأسد الأب لا عهد الابن.

نشأ كثيرٌ من الضباط الذين يحتفلون بإرثه تحت رعايته أو استلهموا منه. كان هؤلاء الضباط متوحشين، كما كان حيدر، لكنهم تصرفوا بشكل مختلف عما فعل.

لم يكن لدى حيدر حياة سوى الثكنات العسكرية. نادرًا ما شوهد في الحفلات والمطاعم، ولا مع مجتمع الأعمال (البزنس) أو مع الممثلين والفنانين. كان هذا يمثّل تناقضًا صارخًا مع الجيل الجديد من الضباط، الذين تقنعوا بواجهةٍ تُظهرهم عصريين وحضاريين وعصريين، يرتدون نظارات شمسية أنيقة، ويتفاعلون مع المتابعين على (فيسبوك) ويظهرون في الأماكن العامة مع مشاهير التلفزيون. في العقد الذي سبق الأحداث المهمة في عام 2011، لم يكن الجيل الجديد من الضباط بحاجة إلى الظهور علنًا بأنه وحشي وقمعي مثل جيل حيدر، وهذا أعطى إحساسًا زائفًا بالليونة والعقلانية، وهذا على الأرجح هو السبب في أن كثيرًا من السوريين استخفوا بمدى وحشيتهم، وكيف يمكن أن يكونوا وحشيين عندما يصل التحدي إلى كرسي السلطة.

لم يكن حيدر ليعطيهم مثل هذه الأوهام. كان على استعداد لقتل أي شخص يهدّد النظام، ولم يُخفِ ذلك. كان هناك تمرّد على الحكم البعثي عام 1982، وعندما فشل ذلك التمرد، لم يكرّر أحدٌ التجربة مرة أخرى طوال مدة عمله في القوات الخاصة.

هذا هو إرث الجنرال حيدر، بالنسبة إلى أنصار النظام. بخلاف ذلك، يُذكر حيدر كواحد من أكثر الشخصيات شهرةً في النظام البعثي الذي أسسه حافظ في السبعينيات واستمرّ في عهد ابنه بشار، وكأحد صانعي آلة النظام القمعية. إن الانقسام في الطريقة التي يتذكرونه بها يعكس ما تواجهه سورية حتى مع توقف العنف إلى حد كبير في جميع أنحاء البلاد.

لم يُفاجَأ كثير من القروّيين بتحوّل حيدر إلى الدين، بالنظر إلى أنه ينحدر من عائلة علوية معروفة تنتمي إلى شيوخ الدين من الطبقة الوسطى. كان والدُه شيخًا، وكذلك كان عمّه أحمد محمد حيدر، الذي اشتهر في ثلاثينيات القرن الماضي بـ “المصلح الديني”، إذ دعا العلويّين إلى التخلّي عن الخرافات والاندماج مع الإسلام السائد. وينتمي آل حيدر إلى عشيرة “الحدادين” القوية في الطائفة العلوية، التي تضم عائلة أنيسة مخلوف، والدة الرئيس الحالي. وُلد حيدر في هذه العائلة عام 1932، في عهد الانتداب الفرنسي على جيب العلويين المعروف بدولة العلويين. والتحق بالمدارس الحكومية في اللاذقية، على بُعد ساعتَين سيرًا على الأقدام، من (حلة عارا)، حيث التقى بحافظ الأسد، وهو طالب علوي، في وقت ما من عام 1951. كان قدرهم أن يصبحوا أصدقاء مدى الحياة، فانضموا معًا إلى حزب البعث في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، بإلحاحٍ من معلّمهم وهيب الغانم، الذي كان وزيرًا خلال أعوام الديمقراطية في سورية. كان حافظ أكبر من حيدر بعامين، وقد التحقوا بأكاديمية حمص العسكرية، وتخرّجوا فيها ليصبحوا جنودًا محترفين في الجيش السوري.

كان كلاهما مفتونًا بـ جمال عبد الناصر، الرئيس المصري، الذي دعا إلى القومية العربية في الخمسينيات، ودعماه في إنشاء الوحدة السورية المصرية عام 1958. وفي أثناء سنوات الوحدة (1958-1961)، عُيِّن حافظ في القاهرة، وظلّ حيدر في سورية.. لسببٍ ما، استُبِعد حيدر من اللجنة العسكرية السريّة التي أسسها حافظ ورفاقه البعثيون عام 1959، والتي كانت للدفاع عن الوحدة ضد “أعدائها الكثيرين” (وهو مصطلح استخدموه للإشارة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية). أُطيح نظام الوحدة بانقلاب عسكري عام 1961، وبعد أقل من عامين، شارك حافظ في انقلاب آخر مع الضباط الناصريين، بهدف استعادة الجمهورية العربية المتحدة. كان الانقلاب صبيحة 8 آذار/ مارس 1963، وعيِّن حافظ قائدًا لسلاح الجو السوري. في 23 شباط/ فبراير 1966، وقع انقلاب آخر في دمشق، وصل صلاح جديد، الرجل القوي العلوي، إلى السلطة، وكان أيضًا عضوًا مؤسسًا في اللجنة العسكرية لحزب البعث، وشغل لفترة وجيزة منصب رئيس أركان الجيش السوري، بعد ما يسمّيه النظام “ثورة الثامن من آذار”.

كان صلاح جديد انطوائيًا، لا يتحدث كثيرًا، ولم يُلقِ خطابًا عامًا البتة. ولكونه مدركًا جيّدًا لضعفه كعضو في طائفة أقلية، لم يتولَّ السيطرة المباشرة على الدولة، وبدلًا من ذلك دعم طبيبًا دمية، يُدعى نور الدين الأتاسي، ليكون الرئيس. أصبح حافظ وزيرًا للدفاع في ظل حكومة جديد -الأتاسي، وفي أعقاب هزيمة سورية، في حرب الأيام الستة ضد إسرائيل عام 1967، كُلِّف حافظ بإنشاء قوة صادمة خاصة لتشتبك مع الإسرائيليين في ما أسماه عبد الناصر “حرب الاستنزاف”. سُمّيت تلك القوة بالقوات الخاصة، وعَيّن صديقه القديم حيدر قائدًا لها، الذي كان يبلغ من العمر 36 عامًا، ولم يكن قد تولّى أيّ منصب رفيع في ظل نظام البعث من قبل. كانت خطة حرب الاستنزاف من بنات أفكار عبد الناصر، الذي اعتقد أن مثل هذه التكتيكات ستُجبر إسرائيل على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية ومرتفعات الجولان السورية، التي احتلت جميعًا في غضون أسبوع عام 1967. بدأت حرب الاستنزاف رسميًا في آذار/ مارس 1969، وشملت غارات كوماندوس من قبل الجيشين السوري والمصري على الأراضي الإسرائيلية. ومن مقر عمله في القطيفة في ريف دمشق، بدأ حيدر إعداد قواته لدور أكبر بكثير في تاريخ سورية المعاصرة.

في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، شاركت القوات الخاصة لحيدر في انقلاب عسكري بقيادة حافظ، واعتقلت الأتاسي مع صلاح جديد، الرئيس الحقيقي المسؤول. وألقي كلاهما في السجن مدى الحياة. ثم أُفرِج عن الأتاسي قبل أسابيع من وفاته عام 1992، في حين توفي جديد في زنزانته العام التالي. أصبح حيدر جزءًا من الدائرة المقرّبة من حافظ، وكان معروفًا بأنّه أحد أكثر ضباطه إخلاصًا وأمانًا. في عام 1973، شاركت قوات حيدر في حرب تشرين الأول/ أكتوبر مع إسرائيل، حيث شاركت في استعادة قاعدة مراقبة إسرائيلية على المنحدر الجنوبي لجبل الشيخ.

بعد ذلك بعامين، استُدعيت القوات الخاصة إلى المعركة مرة أخرى، وهذه المرة لمحاربة منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، في وقت مبكر من الحرب الأهلية اللبنانية. عبرت قوات حيدر الحدود إلى لبنان في 1 حزيران/ يونيو 1976، وأقامت قاعدة عسكرية في بحمدون، على بعد 15 ميلًا من بيروت، العاصمة اللبنانية. وكذلك أنشِئت وحدة أخرى في سهل البقاع، وثالثة في مدينة طرابلس الشمالية. وعند انتهاء القتال مع عرفات، وجّه حيدر بنادقه ضد حزب الكتائب اللبناني الذي يتزعمه بشير الجميّل، بعد أن رحّبوا بالاحتلال الإسرائيلي لبيروت عام 1982، على أمل القضاء على الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان.

بين معركتي لبنان 1976 و1982، انتخِب حيدر لعضوية اللجنة المركزية لحزب البعث المؤلفة من 75 عضوًا، خلال مؤتمر الحزب السابع الذي عُقد بين كانون الأول/ ديسمبر 1979 وكانون الثاني/ يناير 1980. انخرط رجاله لفترة وجيزة في القتال الداخلي، لأول مرة منذ إنشاء القوات الخاصة عام 1968. منذ عام 1976، بدأ الجناح المسلح لجماعة الإخوان المسلمين في ضرب الشخصيات العلوية، وأسفر ذلك عن مقتل عشرات الأطباء والمهندسين والضباط المقربين من حافظ، وكان حيدر على رأس قائمة أهدافهم. في عام 1980، أُمر بتمشيط مدن حمص وحلب وجسر الشغور، حيث كانت المشاعر المؤيدة للإخوان عالية، باستخدام الدبابات والطائرات ووحدات الكوماندوس. وأُلقي القبض على الآلاف لأدنى اشتباه في كونهم أعضاء أو حتى متعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم نُقلوا إمّا إلى السجن ليمضوا بقية حياتهم، وإما لإعدامهم بمحاكمات سريعة.

توِّجت هذه الحملة بالمعركة الأخيرة مع الإخوان المسلمين، في حماة في 2 شباط/ فبراير 1982، حيث فُرض حصار على المدينة، وعُزلت عن بقية سورية لمدة 27 يومًا. لا توجد أرقام محددة لعدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم خلال تلك الفترة. ويذكر روبرت فيسك، الصحفي البريطاني الراحل، في كتابه الصادر عام 1990 (أشفق على الأمة)، أنه قُتل 20 ألف شخص في حماة، بينما قدمت اللجنة السورية لحقوق الإنسان رقمًا أعلى بكثير، قائلة إن ما بين 35 و40 ألفًا لقوا حتفهم في حماة.

على الرغم من اشتراك حيدر في العملية العسكرية في حماة، فإنه لم يكن وحيدًا. ومن بين الضباط الآخرين الذين كان لهم دور مركزي في المعركة، العقيد فؤاد إسماعيل من اللواء الميكانيكي الحادي والعشرين، ونديم عباس من لواء الدبابات 47 (الذي كان جزءًا من الفرقة الثالثة المدرعة لصديقه ورفيقه اللواء شفيق الفياض). وبالطبع، كان في المقام الأول رفعت الأسد، عمّ الرئيس الحالي سيئ السمعة، الذي قاد قوات سرايا الدفاع القوية. على أي حال، شارك ما بين (12,000 و25,000) جندي في معركة حماة، التي انتهت بتدمير جزء كبير من المدينة واجتثاث جماعة الإخوان المسلمين من المجتمع السوري، إلى أن أعادت تجميع صفوفها، وظهرت ككيان سياسي ومسلح بعد سقوط إدلب عام 2015 ومحيطها، أي بعد 30 عامًا.

في عام 1983، أصيب حافظ بمرض خطير، فتسبب ذلك في أزمة وراثة داخل عائلته. قبل دخول المشفى، كان قد أنشأ هيئة حاكمة لإدارة شؤون الدولة في غيابه، مؤلفة بالكامل من المسلمين السنّة، مثل مصطفى طلاس (وزير الدفاع)، وحكمت الشهابي (رئيس أركان الجيش)، وعبد الرؤوف الكسم (رئيس الوزراء). واستُبعد من المجلس أخوه رفعت الذي لطالما عدَّ نفسه الرجل الثاني في سورية. وأدى ذلك إلى سعيه للانتقام، حيث تفتحت طموحاته السياسية، وأمر قوات سرايا الدفاع بالنزول إلى شوارع دمشق استعدادًا لانقلاب، وقد أُلصِقت صُوره في جميع أنحاء المدينة، بالاسم الذي أحبّ أن يشير إليه: “القائد”.

سيثبِتُ حيدر دوره الأساسي في هذه الحلقة أيضًا. من حيث التدريبات والقوة والتسليح، لم يكن هناك قوة مكافئة لقوات رفعت، سرايا الدفاع، من أي وحدة أخرى في الجيش السوري، باستثناء القوات الخاصة لحيدر.

نيكولاس فان دام، السفير الهولندي والمؤرخ في كتابه المؤثر (الصراع على السلطة في سورية)، يقول إن قوة حيدر كانت مؤلفة من 45 في المئة من العلويين بين الجنود، و95 في المئة من العلويين بين الضباط، في حين كانت قوات سرايا الدفاع لرفعت مؤلفة من 90 في المئة من العلويين، على كلا المستويين/ الرتبتين. ويقدّر فان دام العدد الإجمالي لقوات حيدر بين (8,000 و15,000) رجل، في حين يقول كاتب سيرة حافظ الأسد، البريطاني باتريك سيل: إن عددهم يراوح بين (10,000 و15,000).

حاول رفعت إغراء حيدر للانضمام إلى تحالف مشترك، ولو حدث ذلك، لكان من المؤكد أن يطيح بحافظ قبل 10 أعوام في رئاسته. لكن حيدر رفض أن يكون جزءًا من المؤامرة، وقال لرفعت: “لا أعترف بأي زعيم في هذا البلد غير حافظ. هو فاعل خير. أنا مدين له بما لديّ من القوة والهيبة. أنا جنديّ في خدمته وعبدٌ تحت إشرافه وتحت طلبه”.

بعيدًا عن الوقوف إلى جانب رفعت، أمَرَ حيدر قواته بالدخول إلى العاصمة أيضًا، ووضع جنوده في زوايا استراتيجية استعدادًا لمواجهة مع قوات سرايا الدفاع. تمركز الجزء الأكبر من قواته حول مقر التلفزيون في ساحة الأمويين، التي عادة ما تكون الوجهة الأولى لأي عقل مدبر للانقلاب، الواقع بشكل استراتيجي بجوار مقر قيادة الجيش. يمكن التعرف إلى رجال رفعت من قبّعاتهم القرمزية، وإلى قوات حيدر من قبعاتهم الكستنائية. عندما تعافى حافظ وخرج من المشفى، اشتهر بأنه ذهب إلى منزل شقيقه في أوتوستراد المزة، برفقة باسل، ابنه الأكبر. في مواجهة عائلية حضرتها أنيسة، والدتهم العجوز، قال الأسد لشقيقه: “أتريد إسقاط النظام؟ ها أنا أمامك. أنا النظام”!

بمساعدة حلفائه السوفييت، قرّر حافظ إرسال جميع كبار جنرالاته إلى موسكو، ظاهريًا كجزء من وفد حكومي، حتى تهدأ التوترات. تم إرسالهم بتذكرة ذهاب فقط، من دون أدنى فكرة عن موعد العودة أو كيفيتها. وقبل مغادرته دمشق، أقام رفعت حفل وداع لمؤيديه في فندق الشيراتون، وقال لهم: “لو كنت أحمق، لكنت دمرت هذه المدينة بأكملها، لكني أحبّ هذا المكان. اعتاد الناس علينا. هم يحبّوننا. والآن هؤلاء الكوماندوس [إشارة إلى حيدر ورجاله] يريدون مطاردتنا”.

وُضع حيدر ورفعت على متن طائرة مستأجرة إلى موسكو، في 28 أيار/ مايو 1984. وانضم إليهما الضابطان شفيق الفياض ومحمد الخولي قائد سلاح الجو السوري. واحدًا تلو الآخر، ولاحقًا استدعاهم حافظ إلى دمشق، وأبقى رفعت وحده بعيدًا عن الوطن. كان يرسل رسالة: “لقد صنعتكم جميعًا، ويمكنني إبعادكم أو تدميركم متى أردت. ويمكنني أيضًا إعادتك، إذا أردت”. قضى حافظ على جميع أعدائه، وشدد قبضته على السلطة عدة مرات على مر السنين، وكان لحيدر دورٌ فعال في كل زاوية تقريبًا.

ظلّ حيدر مخلصًا إلى جانب حافظ، خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات. ثم بدأت الصدوع في الظهور بعد بدء عملية السلام في الشرق الأوسط، التي بدأت في مؤتمر مدريد للسلام، في تشرين الأول/ أكتوبر 1991. كان الاتحاد السوفييتي ينهار، وكانت سورية تفتح صفحة جديدة مع الإدارة الأميركية للرئيس آنذاك جورج دبليو بوش. اتخذ حافظ قرار الذهاب إلى مدريد، والدخول في محادثات مباشرة مع إسرائيل، من دون استشارة أي من كبار مساعديه. لم يشعر أنه مضطر إلى ذلك، فكل قرار استراتيجي منذ عام 1970 كان يتخذه الأسد بمفرده، ولم يجرؤ أحد في دائرته الداخلية على الاعتراض أو التشكيك في حكمته. لكن حيدر اشتكى أمام مجموعة من الضباط قائلًا: “نحن الذين بنينا النظام، نريد أن يكون لنا رأيٌ في عملية السلام”. نُقلت هذه العبارة إلى حافظ، وأثارت غضبه لسببين: أحدهما إعلان أحد كبار ضباطه معارضته، والآخر، وهو الأهمّ، أن حيدر بات يعدّ نفسه شريكًا. وكان حافظ يرى أنه هو مَن صَنَع هؤلاء الرجال، وأنهم بيادق وأتباع، لا شركاء.

ثم جاءت وفاة باسل نجل حافظ في حادث سيارة، في كانون الثاني/ يناير 1994، وهو في طريقه إلى مطار دمشق الدولي. ما إن انتهت الجنازة حتى بدأ حافظ التخطيط لخلافة باسل، حيث أحضر بشار، ابنه الثاني، من الدراسات الطبية في لندن، إلى دورة مكثفة في الشؤون العسكرية والسياسية. كان بشار في التاسعة والعشرين من عمره، وحيدر في الثانية والستين من عمره. ومرة أخرى، أثار حيدر حنق الرئيس بقوله: “أولًا كان باسل، والآن بشار. نحن أحقّ من هؤلاء الأولاد”. وكانت تلك لحظة النهاية لحيدر.

في 3 آب/ أغسطس 1994، بعد سبعة أشهر من وفاة باسل، اعتقِل حيدر وسُرَّح من الجيش ومن جميع المناصب في حزب البعث. وسُلِّمت قيادة القوات الخاصة للجنرال علي حبيب، وهو ضابط علوي آخر قاد القوات السورية في حرب الخليج الثانية عام 1991. ظلّ حيدر في الحجز لمدة شهرين، في مكانٍ لا يزال مجهولاً حتى اليوم. لا أحد يعرف بالضبط ما حدث خلال تلك المدة، وهل التقى على انفراد بحافظ أم لا. ما نعرفه هو أن الأسد عفا عن حيدر في نهاية المطاف، وأطلق سراحه، وسمح له بالتقاعد الكريم من دون محاكمة أو حملة تشهير.

حضر حيدر جنازة حافظ في 13 تموز/ يوليو 2000، وأعلن ولاءه لبشار كرئيس جديد لسورية. وعندما اندلعت الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، نشرت شبكات التواصل الاجتماعي قصصًا جامحة حول حيدر، يقول إنه يعارض الطريقة التي كانت تُدار بها الحرب، وما وصفه بأنه “قتل بلا معنى” لشباب علويين، بسبب حرب يمكن تجنبها. ونظرًا إلى موت حيدر السلمي، وإلى مقدار التكريم الذي ناله يوم وفاته من المواقع الإلكترونية الموالية للنظام والمنافذ الإخبارية؛ لا يبدو أن أيًا من هذه القصص كان صحيحًا.

لكن ذلك يشير إلى الانقسام الذي لا يزال في قلب المجتمع السوري، الذي استمر في الجيل الثاني من جنود النظام: هل خلق النظام دولة وحشية وقمعية أم جهاز سيطرة أبقى سورية كاملة في جوار صعب!! كان حيدر في جانب واحد من هذا، مؤمنًا بـ “استقرار” النظام، على الرغم من مشاركته الوثيقة في الحروب والقمع، ولا يبدو أنه غيَّر رأيه حتى بعد أحداث 2011. لقد ترك وراءه عائلة كبيرة، نظام الأسد المصمم على التمسك بالسلطة والدولة في حالةٍ يُرثى لها.

  • المصدر الأصلي: مجلة نيو لاينز
المصدر مركز حرمون للدراسات المعاصرة
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل