الرسالة الأولى هي قول أردوغان أنه أبلغ بوتين خلال لقائهما في سوتشي، يوم الجمعة الفائت، أن “حل الأزمة السورية لا يمكن أن يتحقق والمنظمات الإرهابية تصول وتجول فوق الأراضي السورية”. بينما نقل عن بوتين، في ما يمكن اعتباره رسالة ثانية، قوله “أن حل الأزمة السورية سيكون أفضل بالتعاون مع بشار الأسد”.
ما سبق أتى من ضمن تصريحات أدلى بها أردوغان لمجموعة صحافيين مرافقين له في رحلة العودة من سوتشي، ونُشرت يوم السبت. وفي قراءة الأقوال استحوذ على الاهتمام الشقُّ الذي يشي بعدم موافقة بوتين على عملية عسكرية تركية ضد قسد، والاكتفاء عوضاً عنها بتفاهم يسمح لأنقرة بمهاجمة أهداف كردية منتقاة، بالتنسيق مع موسكو، وربما ضمن التنسيق المخابراتي مع سلطة الأسد.
هذا المستوى العملياتي حجب الإشارات الأعمّ المتعلقة بالموقف التركي من القضية السورية ككل، فربطُ أردوغان حل “الأزمة السورية” بالقضاء على التنظيمات الإرهابية يتجاهل أصل القضية السورية والثورة التي قامت ضد الأسد، لتبدو المشكلة كأنها مقتصرة إلى حد كبير على وجود الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني. علينا في هذا السياق تذكر تصريح وزير الخارجية التركي، وفيه أشار إلى استعداد بلاده لتعاون سياسي مع الأسد ضد منظومة الإدارة الذاتية الكردية، أي أنه يعِد بتجاوز مستوى التواصل المخايراتي الموجود أصلاً.
تتوّج التصريحات التركية الأخيرة مساراً من التعاطي مع القضية السورية ليس حديث العهد، هو مسار بدأ عملياً منذ سنوات، تراجع خلالها خطاب أنقرة المضاد للأسد، لحساب التركيز على الهاجس الأمني المتعلق بحزب العمال الكردستاني. الانعطافة الفعلية حدثت إثر التدخل العسكري الروسي المؤيَّد بموافقة واشنطن، وقراءة الحكم التركي له على أنه طوي لصفحة إسقاط الأسد، ليأتي التدخل العسكري التركي المباشر تتويجاً لتفاهمات مع قوى النفوذ الأخرى وفي مقدمها روسيا، وليتولى تحديداً ضبط الفصائل التي قامت أصلاً بهدف محاربة الأسد، بصرف النظر عن مدى إخلاصها لذلك الهدف.
معلومٌ أن أنقرة ساهمت كضامن في الخدعة الروسية المسماة آنذاك “مناطق خفض التصعيد”، حتى لم يبقَ منها سوى إدلب بوصفها ضرورة لتكديس اللاجئين المرحَّلين من المناطق الأخرى. منذ الاتفاق على “خفض التصعيد” اتخذت الفصائل المشمولة به رسمياً وضعية الدفاع، بمعنى التزامها بعدم مهاجمة قوات الأسد وحلفائه، أي أن الاتفاق كان ينص فعلياً على إنهاء الحرب ضد الأسد. استكمالاً لذلك، لم تسيطر القوات التركية والفصائل التي أصبحت تابعة لها على أية منطقة كانت تحت سيطرة الأسد، وكافة مناطق النفوذ التركي الحالية “باستثناء إدلب” كانت إما تحت سيطرة داعش أو سيطرة القوات الكردية.
فقط شكلياً، حافظت الفصائل التابعة لأنقرة على الخطاب المضاد للأسد، بينما هي عملياً تنفّذ السياسية التركية بحذافيرها، وهو أيضاً حال ائتلاف المعارضة. بتغييب القضية الأم، قفز الموضوع الكردي إلى صدارة الخطاب الإعلامي، لتصبح محاربة قسد هي القضية البديلة. من دون أن يعني هذا التحول أن علاقة المعارضة بقسد كانت إيجابية من قبل، ومن دون إعطاء قسد أية ميزة لكونها صارت هدفاً لفصائل فقدت العقيدة التي تأسست عليها. جزء من المعركة بين الفصائل وقسد صار محتماً، يمليه الصراع على النفوذ في المساحة المتاحة خارج سيطرة الأسد، والجزء الآخر يعود بالتأكيد إلى تبني الخطاب الرسمي التركي إزاء الموضوع الكردي.
عطفاً على التأثير التركي، سيكون مضحكاً وفضفاضاً تبادل الاتهام بالإرهاب بين تلك الفصائل وقسد. ذلك بخلاف شعار مكافحة الإرهاب الذي راح يحتل صدارة الخطاب التركي المتعلق بسوريا، وبه انضمت أنقرة إلى القوى الأخرى التي ترفع الشعار ذاته، مع التفسير التركي الذي يكاد يحصر التهمة بحزب العمال وفروعه، بينما تراه الإدارة الأمريكية في التنظيمات الجهادية العايرة للحدود، وتراه موسكو في كافة الفصائل التي قاتلت الأسد، أو في أحفاد معاوية بحسب المطالبين بثارات زينب.
إذاً، مع تأويلها الخاص للإرهاب، انضمت أنقرة إلى السائد دولياً في النظر إلى القضية السورية. نذكّر هنا تحديداً بالتحول في التعاطي الدولي منذ أبرمت واشنطن صفقة الكيماوي، حيث فُهم منها قبولاً أمريكياً ببقاء الأسد، لينصرف الاهتمام إلى معالجة تبعات بقائه، ولتقفز إلى الصدارة قضيتا الإرهاب واللاجئين.
داخلياً، لن يكون الرأي العام وقوى المعارضة التركيين بعيدين عن الهواجس الدولية، فالغالبية لديها هواجس أمنية تقليدية تجاه ما تعتبره إرهاباً وتهديداً كرديين، وربما هناك الآن أغلبية تفوقها من الذين يرون في اللاجئين السوريين خطراً داهماً على تركيا. هناك قوى في المعارضة التركية تفضّل، لمعالجة هذين الملفين، التطبيع مع الأسد، وبهذا تشبه قوى سياسية غربية من أقصى اليمين وأقصى اليسار، مع نكهة محلية يريد أصحابها إثبات فشل سياسة التدخل على النحو الذي انتهجه أردوغان.
في اليوم الذي نُشرت فيه أقوال أردوغان العائد من سوتشي، نُشر أيضاً تصريح لوزير داخليته سليمان صويلو، كشف فيه عن الانتهاء من بناء أكثر من 62 ألف مسكن في إدلب، ضنن المشروع الذي أطلقه أردوغان للعودة “الطوعية” لمليون لاجئ سوري. أي أن الأخير ووزراءه يواصلون بشكل ملحوظ إصدار الرسائل التي تؤكد على أمرين، محاربة “الإرهاب” الكردي والتخلص من “أخطار” وأعباء اللاجئين. وفي الوقت نفسه يسحب أردوغان من معارضيه ورقة التنسيق مع الأسد، فيبدي استعداده للمضي فيه بموجب مقتضيات الأمن القومي لبلاده.
من أجل إعادة أولئك اللاجئين يحتاج أردوغان رضا بوتين، فلا تدكّ طائراته تلك المساكن، وتقوّض معها ادعاءات أنقرة عن العودة الطوعية. هو مثال مبسَّط عن أوراق القوة التي يملكها بوتين للضغط على أردوغان، والتي لم تتأثر بحربه على أوكرانيا، ومن المستحسن الانتباه إليه من قبَل أولئك الذين يظنون أن أردوغان صار في موقع شديد القوة إزاء صديقه الروسي اللدود، فلا يرون نقاط الضعف والقوة لدى كلّ منهما. ويُستحسن الانتباه إلى أن حاجة أردوغان إلى رضا الكرملين ستشتد مع اقتراب موعد الانتخابات التركية في الصيف المقبل، لأن رسائل أردوغان الأخيرة إلى الداخل التركي هي من ضمن حملته الانتخابية المبكرة.
في ما عدا وجهة الداخل التركي، قد تكون الرسائل الأخيرة في اتجاهات عديدة، منها إغراء بشار الأسد كي يمارس مزيداً من الضغوط على قسد، أو ليوقّع نسخة “محسَّنة” من اتفاق أضنة 1998 الذي أعطى للقوات التركية حرية ملاحقة مقاتلي حزب العمال بعمق خمسة كيلومترات ضمن الأراضي السورية. هناك أيضاً رسالة عن التوافق التركي-الروسي إلى واشنطن الداعمة للإدارة الذاتية، ورسالة إلى الأخيرة مفادها ألا تراهن في المدى المنظور على التناقضات بين أنقرة والأسد. في كل ذلك لا رسائل إلى المعارضة السورية، فهذه من المرجّح أن يتولى إيصالها موظفون بعيداً عن وسائل الإعلام.
عذراً التعليقات مغلقة