ما يُميّز لغة السرد عند الشاعر والروائي السوري عمر قدور (ولد في عام 1966) هو البطء والتكثيف، وهما ميزتان ظهرتا مع روايته الأولى “حواف خشنة” (2002). وهاتان الميزتان تُجبران القارئ على قراءة نصّه الروائيّ ببطء وانتباه.
سبب شخصيّ للكتابة
روايته الجديدة “الشهيدان عمر قدور” الصادرة حديثًا عن دار المتوسط في ميلانو، تأتي ضمن الروايات التي صدرت بعد عام 2011، مضيفة صوتًا آخر إلى الأصوات التي قدّمت أعمالًا كثيرة عن “المقتلة السورية” المستمرة. يعد هذا سببًا شخصيًا للكتابة لدى كثير من الكتّاب السوريين الذين نجوا من المقتلة، وأرادوا أن يقدموا مشهدًا من المقتلة من وجهة نظر وسردية شخصية.
ما يُثير الانتباه هو وجود اسم الكاتب عمر قدور في عنوان الرواية، وليس فقط ككاتب لها. والأمر يدور حول وجود شهيدين يحملان اسم الكاتب استشهدا في “زملكا”، و”أطمة”، السوريّتين، على يد قوات النظام السوري.
هذا سبب شخصي إضافي للكتابة؛ أن يعثر الروائي عمر قدور، ربما بمحض الصدفة، على فيديو على اليوتيوب يصور جنازة شخص يحمل اسمه مات على يد قنّاص بتاريخ 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، وفي أن يعثر على جنازة تحمل اسمه. وبعد ذلك، سيُقتل عمر قدور آخر في مكان آخر، ويشاهد الروائي جنازة الآخر هناك.
“فكرة الرواية تعتمد على وجود شهيدين يحملان اسم الكاتب نفسه استشهدا في “زملكا”، و”أطمة”، السوريّتين، على يد قوات النظام السوري”
في القسم الأول، سيكون الحديث على لسان الشهيد عمر قدور، الذي أصابه قنّاص في زملكا، وستبقى جثته يومين على الأرض، قبل أن ينتشلها الأهالي ويشيّعونه. عمر قدور هذا هو شخصيّة مجهولة، ولا نعرف سوى اسمها، سيقوم الروائي بصنع سيرة له من خياله. أي أن الكاتب سيُعطيه دور الراوي ليتحدّث عن نفسه وماضيه وعائلته. وكل ذلك محض خيال، فلا شيء يعرفه الكاتب عن ذلك الشخص سوى فيديو على اليوتيوب في تشييع سميّه. ولكن هذا الشخص، صاحب السيرة المتخيّلة، سيُقدم مونولوجًا طويلًا من لحظة انتشال جثته، وحملها، إلى لحظة دفنه. هي دقائق قليلة على كل حال، لكن قدور يقدّمها بذلك البطء الذي ميّز كتابته، ومن خلالها يقدّم أشياء واقعية جدًا، أو تسجيلية، لأحداث وشخصيّات معروفة على الساحة السورية. لا بل إن الجثة ستحكي لنا عن مجازر ستحدث بعد وفاتها “أرى جمعًا كبيرًا من الدبابات والمصفحّات والشبيحة يقتحمون زملكا غدًا، أرى النساء والأطفال يختبئون من الرصاص الذي يُطلق بكثافة، وعلى كل ما يتحرّك في الشارع، بل أرى القذائف تفتح كوّات في حيطان البيوت، وأرى من خلال كوة طفلة صريعة في عمر ابني”. سيكون لها رؤية مستقبلية لما سيحدث في زملكا وما حولها. وهذه الميزة سترافق كذلك سميّه الآخر في “أطمة”. وكأن الأموات يفتحون أعينهم أكثر، وينقلون لنا سريعًا أحداثًا جرت وستجري، قبل أن يهيلوا عليها التراب وتنتهي من المشاهدة والسرد.
ضربات سرديّة
القسم الأول ليس مخصصًا لشهيد زملكا فقط، بل هنالك سيرة فداء وحبيبها، ثم زوجها. مقطع للشهيد. ثم مقطع على لسان زوج فداء. مقطع عن جنازة تذهب للدفن، ومقطع عن حياة أخرى لا تتعلق بحياة الشهيد تبدأ بالانطلاق. وهذا ما يحصل في الأقسام الأخرى، حيث يكون هنالك مقطع لشهيد أطمة عمر قدور، ومقطع لأفين وحبيبها، ثم لأفين أخرى وزوجها. وقسم أخير للكاتب يستعيد فيه جميع الخيوط الأخرى، ليقدم ضربات سردية أخيرة للقارئ.
أسماء حقيقية كثيرة ترد في هذه الرواية، مثل مشعل تمو، ورزان زيتونة، وناظم حمّادي، ووائل الحمادة، وفائق المير، ومحمد سعد، وسميرة الخليل، وعلي الشهابي…، وكذلك أحداث كثيرة من قصف ومجازر وتعذيب ومعتقلات ونزوح وهجرة وتشبيح، لدرجة أن الشخصيّات تتحدث بلغة تلك الأيام، وتذهب إلى إيراد تلك الأوصاف التي قد تستغني عنها الروايات، مثل “بشار قصف بيتنا، وقتل أبي وأمي. بشار قصف مدرستي، وكنت غائبًا يومها، فقتل كل أصحابي”، أو “الطاغية ابن الطاغية”، أو “ملعون الروح”، مما يجعلها شديدة الواقعية، ولكنها محمولة على ذلك الخيال الذي أبدع عمر قدور في تنقلاته بينهما؛ فالخياليّ يقوم بالتسجيل، والواقعيّ يستمر في الهروب من أو إلى الخيال، وهي تقنية تُحسب لصاحب رواية “أسماء للنسيان”.
حيوات متعددة
العنف الذي يفيض في هذه الرواية مهما حاول الكاتب لويه بسرد حكايات مختلفة يجعل حتى الشخصيات الناجية تعيش حتفها الذي نجت منه بأعجوبة ما. ففداء التي تنجب بنتًا قبل أن يتم اعتقالها واغتصابها من جميع ضباط وعناصر الفرع، ستنجو من الموت، وستهرب مع زوجها وابنتها “سما” إلى لبنان، ثم إلى باريس. وطوال نجاتها لن تنجو من العنف الذي تعرضت له، لدرجة أن تترك بيتها وابنتها لتعيش شخصية أخرى، مثلية، رغم أنها لا تصلح لتلك الشخصية، وسيودي بها ذلك العنف القديم المستمر إلى الانتحار.
“صاحب رواية “من لا يعرف سيمون؟” يعرف كيف يُخفي الخيوط ويُظهرها، ومتى يفعل ذلك، حتى تتجمع في نهايتها على شكل ضربات لتلك الحيوات المتعددة”
“أفين” الكردية ستترك زوجها في هولندا، وتلتحق بالقوات الكردية، لكي تنجو من غرق أبنائها الثلاثة في البحر. ستترك زوجها العربي هناك في هولندا لتفجّر نفسها ضد دورية تركيّة. وهي اختارت هذه الطريقة لكي لا يكون لها أثر وقبر، كما أولادها الثلاثة الذي ابتلعهم البحر، وكما أخوها الذي سبقها في الالتحاق بالقوات الكردية، وعاد كورقة نعي، من دون جثة، ومن دون قبر.
هذه النهايات أيضًا يشعر القارئ بأنها محسوبة بدقة من الكاتب، فهو يذهب بالأشياء إلى مسبباتها ونتائجها بيسر وخفة، رغم الألم الكبير، الجسدي والنفسي. ويبدو أن صاحب رواية “من لا يعرف سيمون؟” يعرف كيف يُخفي الخيوط ويُظهرها، ومتى يفعل ذلك، حتى تتجمع في نهايتها على شكل ضربات لتلك الحيوات المتعددة.
الرجال الذي نجوا كذلك من العنف والتعذيب والقصف عاشوا كوابيس ذلك التعذيب والقهر عندما صاروا خارج المكان. كانوا لا يشاهدون الكوابيس داخل المكان، لأنهم ببساطة كانوا يعيشونها. وعندما انتهى ذلك التعذيب، وعندما خرجوا من المكان، صاروا يشاهدون كوابيس طويلة ومتعددة من التعذيب والدمار والقصف، كأنها تمنعهم من المضي في العيش خارج المكان “إذ لا يكفي أن تغادر المكان، عليه هو أيضًا أن يغادرك”.
هواء فاتر ثقيل
بطريقة ما سيصبح كل الرجال الأموات عمر قدور، الذي يريد أن يُنبّه الناس إلى الذي سيحصل لهم، ولكن لا أحد يستطيع سماعهم. ويتحول كل الرجال الأحياء، في هذه الرواية على الأقل، إلى عمر قدور لا يعرف كيف يواصل عيشه بعد النجاة. سيبدو فاقدًا لفهم معنى مواصلة العيش بعد التخلي عنه من قبل نسائه وأولاده. بينما الأولاد الذين ظلوا أحياءً، مثل دفا وسما، سيكبرون سريعًا، ليقفوا إلى جوار الأب المنهار.
يستخدم صاحب رواية “هواء فاتر ثقيل” أساليب متعددة لإنجاز روايته التي تجري في أكثر من 160 صفحة، من المونولوج والحوار، وكذلك الرسالة، والتقطيع السردي والسينمائي، مقدمًا حكايات كثيرة، وليس فقط حكاية كل من شهيدي زملكا وأطمة. والرواية، على الرغم من حمل اسم الشهيدين، لا تُخلص لسيرتهما، أو لعوالمهما فقط، بل يتابع سرد حكايات تجري على رقعة واسعة؛ في سورية ولبنان وفرنسا وهولندا وتركيا، خلال حمل جثمانين إلى مقبرة.
رواية “الشهيدان عمر قدور” لا تبدو تسجيليّة بلغة مباشرة، أو عاطفية تجسّد وجهة نظر واحدة، بل فيها طبقات لغوية متعددة لشرح عوالم ودواخل شخصيّات أنثوية وذكورية مختلفة، وهنالك جمل شعريّة ترطّب أوصال تلك الحكايات، وذلك المصير العنيف، لكي تستمرّ دهشتها. رواية لا تذهب فقط إلى الانضمام إلى تلك الفئة من الأعمال التي تخصّ المقتلة السوريّة، بل تبقى إلى جوار أعمال عمر قدور السابقة، لأنها استمرار لما انتهت إليه.
عذراً التعليقات مغلقة