كان من نصيبنا نحن السوريين في القرن الواحد والعشرين أن نشهدَ مرور مئة عام على توقيع سايكس بيكو، الاتفاقية التي وُقعتْ من طرف بريطانيا وفرنسا في منطقة شرق المتوسط لتشكيل دويلات جديدة تحكمها فيما بعد بطريقة غير مباشرة بعد أن بات الاستعمار المباشر مكلفاً بشرياً وعسكرياً ومادياً، فكان نتيجتها أن عرفنا شكل سوريا الحالي وبحدودها الجغرافية المرسومة، فكان للدولتين الراعيتين للاتفاقية إنشاء ما ترغبان فيه من أشكال الدولة في الدول تحت الوصاية، مثل الحكم بالإنابة أو المراقبة أو بالواسطة بموجب اتفاقات تعقدها مع حكومات هذه الدول المفترضة.
عرف أغلبنا أن شكل سوريا الحالي بحدودها السياسية ما هي إلا خريطة مقتطع منها أقسام كثيرة، مُنحت بشكل أو بآخر لدول مجاورة وأن الشكل الحقيقي وغير الموجود في كتب الجغرافيا لــ”الشام” يمتد بحدود جغرافية أكبر بكثير من الحدود المرسومة سياسياً في الوقت الحالي.
الحقيقة الأسوأ التي لمسناها بعد قيام الثورة السورية أننا اكتشفنا أن حالة التقسيم التي رسختها تلك القوى في البلاد لم تكن سياسية فحسب، فقد رسخت انقساماً مجتمعياً
من نصيبنا أيضاً أن نكتشف أن وبال هذه الاتفاقية لم يقتصر على الحد السياسي فحسب، وأن المصيبة الأكبر أنها كانت سبباً أساسياً في تمكين سياسيين وحكومات ورؤساء دول ما زالوا مرهونين للخارج حتى هذه اللحظة، وأن القرارات التي ادعوا فيما سبق أنها مستقلة كانت مجرد شعارات جوفاء، وأن تلك الدول ما زالت بشكل أو بآخر تحاول تكرار السيناريو في الوقت الحاضر وتجنح إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ وفرض خريطة جديدة بما يتناسب ونظرتهم إلى الواقع السياسي الجديد.
الحقيقة الأسوأ التي لمسناها بعد قيام الثورة السورية أننا اكتشفنا أن حالة التقسيم التي رسختها تلك القوى في البلاد لم تكن سياسية فحسب، فقد رسخت انقساماً مجتمعياً وأغرقت الفئات الاجتماعية في حروب باردة داخلية ما جعل أمور ضبط المجتمع والسيطرة عليه أكثر سهولة وأكثر فاعلية، بحيث كان الانجذاب لتنفيذ مخططات تلك الدول أسرع من الانجذاب والعمل على مشروع وطني موحد.
تخضع سوريا اليوم لاختبار أكبر وأشد أهمية من ناحية وحدة الأراضي ومن ناحية وحدة المجتمع في آن واحد، إذ تشهد الساحة اليوم في الشمال والشمال الشرقي السوري صراعات هدفها السيطرة على الأراضي وبسط النفوذ، إضافة إلى الصراعات القائمة بين القوات الروسية والقوات الإيرانية في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، عدا أن الدول العظمى تتمدد بأذرعها الاقتصادية والعسكرية بقوة في أغلب مناطق البلاد، ما يجعلنا أمام تخوف أعظم لا سيما أن كل جهة تحاول السيطرة على أكبر حصة من الكعكة التي يتنافس عليها العالم.
في الوقت الذي ما زال فيه كثير من المؤمنين بالثورة يعملون جاهدين لتقديم المجرمين إلى العدالة وتحقيق إطلاق سراح المعتقلين، يبدو أن المستنقع الذي أغرق فيه العالم سوريا لم ينته بعد وأننا السوريين محكومون بمحاولة السباحة في تلك المياه الآسنة التي عملوا على وجودها، ليس بعد قيام الثورة السورية أو ثورات الربيع العربي فحسب، وإنما منذ سنوات كثيرة بهدف ألا تشكل خطراً على شكل الأنظمة الموجودة في المنطقة، ما يثبت لنا أن الاستبداد هو ابن الاستعمار البكر وصغيره المدلل.
يصعد إلى الصدارة بقوة في مثل هذا الوقت الحديث عن شكل الحكم الفدرالي، على اعتبار أنه من الممكن أن يكون حلاً لمشكلة التشرذم والتخبط السوري الحاليين، الأمر الذي يعارضه كثير من السوريين لأنه في نظر كثيرين مرادف لفكرة التقسيم أو قد يكون ممهّداً لها، غير أن ذلك أمر تدحضه الحقيقة العملية في كثير من الدول الأوروبية مثلاً أو في الولايات المتحدة الأميركية، فالحقيقة أن لا علاقة لشكل الحكم في الدولة بفكرة تقسيمها أو لا، فسواء كان الحكم فدرالياً أو مركزياً موحداً يبقى ذلك مجرد طريقة إدارة سياسية أكثر مناسبة بحسب الظرف العام لتحقيق أكبر قدر من العائد المعنوي والمادي للبلاد.
تذهب بعض الدول لتطبيق مبدأ الحكم اللامركزي السياسي أو الإداري، بحيث يكون لكل ولاية أو محافظة مهمة إدارة شؤونها ووضع قوانينها وتطبيقها وتنظيم انتخاباتها المحلية وخططها التنموية والمالية وجباية الضرائب، وذلك لا يتعارض على الإطلاق مع فكرة وحدة الدولة الخارجية سياسياً، لأنه وبكل بساطة تبقى أمور الحقائب السيادية مثل الدفاع والداخلية والخارجية تُدار بشكل مركزي ويُتخذ بشأنها قرار موحد يتماشى مع سياسة الدولة العامة وخططها الاستراتيجية.
القوى والتحالفات الدولية تعمل على تقاسم الغنيمة والسيطرة عليها في وقت يختلف فيه السوريون حول أبسط مفاهيم العيش المشترك
ربما يكمن الخطأ أن نبدأ بمحاولة تحديد شكل الدولة ونظامها السياسي قبل أن نسعى أن تكون سوريا دولة حتى في أبسط مفاهيمها، وهي الأرض والشعب من حيث المبدأ، خاصة في وقت ما تزال فيه الأرض السورية مترامية الأطراف مسرحاً لمعارك لا ناقة للسوريين فيها ولا جمل، ذلك أن القوى والتحالفات الدولية تعمل على تقاسم الغنيمة والسيطرة عليها في وقت يختلف فيه السوريون حول أبسط مفاهيم العيش المشترك.
وعلى أن الحديث في هذه النقطة سابق لأوانه إلا أنه قادم لا محالة، تبدو النقطة الأساسية التي قد تكون مفصلاً هاماً في مسألة شكل الدولة السياسي الأنسب وتبعاته على تكوين المجتمع السوري وتركيبته، هي احترام وتطبيق مبدأ المواطنة بأن يكون الجميع متساوين أمام القانون، وهذا بحدّ ذاته يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ لتحققه ووقتٍ أطول من أجل إعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات وبين المواطنين بعضهم مع بعضهم الآخر، والأهم من ذلك تعزيز حالة الانتماء للهوية السورية بصرف النظر عن أي انتماء آخر.
عذراً التعليقات مغلقة