سيبقى غزو بوتين لأوكرانيا الحدث الرئيس في أجندة السياسة العالمية، ما دامت رحى الحرب تدور هناك، ولا أحد ينتظر أن تُحقق أوكرانيا انتصارًا كاملًا، والغرب يعي ذلك الأمر تمامًا، على الرغم من أن جيشها وشعبها يدافعان ببسالة عن أراضيها، منذ اليوم الأول لذلك الغزو، وعلى الرغم من أن الغرب قدّم لها مساعدات سخية عسكرية، وإغاثية ودعم سياسي وإعلامي. فالغاية من وقوف الغرب إلى جانب أوكرانيا هي النيل من روسيا، ومن بوتين تحديدًا، فالحرب تتجه نحو إقامة جدار برلين جديد، بين روسيا وبقية بلدان أوروبا، وتُنعِش حلف الناتو الذي كاد أن ينام أيام الرئيس ترامب، فضلًا عن أنها ستُحفّز عملية سباق التسلّح وتوسّع دائرته.
ومن نتائج الغزو، توسّع حلف الناتو ليضم دولًا كانت تفضل البقاء خارجه، ولكن الرّعب من بوتين دفع تلك الدول إلى أحضان الناتو، ومن النتائج أيضًا اشتعال حرب النفط والغاز الروسي الذي تعتمد عليه أوروبا، وسعي هذه الأخيرة لتأمين مصادر أخرى للطاقة، بدلًا من النفط والغاز الروسي، وإنْ استغرق هذا السعي بعض الوقت وتسبّب في عدد من الصعوبات، حيث إن أوروبا في النهاية ستتخلى عن إنتاج روسيا النفطي، وسيوقع ذلك خسائر اقتصادية فادحة بروسيا، سيدفع ثمنها الأكبر الشعب الروسي.
وفي جانب آخر من المشهد، تظهر تركيا -وهي عضو في حلف الناتو- وهي تسعى لاستغلال هذه الحرب، حيث إنها تسعى من جهة للعب دور الوسيط برضى من الغرب وروسيا معًا، على الرغم من توقف الوساطة، كما تسعى لاستغلال انشغال روسيا في أوكرانيا، وحاجة أميركا وأوروبا إلى موافقتها على دخول السويد وفنلندا في حلف الناتو، فتضع شروطها للتضييق على نشاط حزب PKK الكردي التركي، في السويد وفنلندا وباقي أعضاء حلف الناتو، وتسعى من جهة أخرى لاستكمال سيطرتها على كامل منطقة الشريط الحدودي السوري، بعمق 32 كم في الأراضي السورية، بحيث تقلّص منطقة سيطرة حزب PYD وحلفائه الشكليين إلى حدّ بعيد. وإذا تحقّق لها ذلك، فستكون قد وجّهت ضربة إلى ما يُسمّى “الإدارة الذاتية” التي تتحكم فيها قوات PYD الكردية، إضافة إلى مكاسب أخرى. ويبدو أن الولايات المتحدة أعلنت عدم موافقتها، ولكنها لم تتخذ موقفًا صارمًا، ويُعتقد أن صدور التحذير هو من باب المفاوضات، ولا شك في أن أميركا ستوازن بين حاجتها إلى تركيا في موضوع أوكرانيا، وحاجتها إلى دعم سيطرة القوات الكردية على شرق الفرات، ومن ثم ستُرجح كفّة مصالحها. ويضاف إلى ذلك أن روسيا أرسلت تعزيزات عسكرية إلى قاعدتها في القامشلي، كإعلان عن عدم موافقتها على العملية التركية، ولكن موسكو مشغولة بحرب أوكرانيا، التي تصدرت قائمة حساباتها الخارجية. وقد تنتهي مساعي تركيا بسيطرتها على الأراضي الواقعة بين منطقة “نبع السلام، وغصن الزيتون”، أو بسيطرتها على المنطقة الواقعة غرب الفرات في منبج، أو على كليهما معًا، ولا جدال في أن تلك السيطرة ستُضعف المشروع الكردي بشكل كبير.
في المشهد البانورامي، تبدو إيران الرابح، حتى الآن، حيث إنها سارعت إلى احتلال المواقع التي انسحبت روسيا منها في سورية لتعزيز عملياتها في أوكرانيا، ومن جهة أخرى، استفادت من التوتر بين روسيا وإسرائيل، بسبب موقف إسرائيل المعارض لغزو بوتين لأوكرانيا، بعد الضغط الأميركي عليها.
لقد أسميت الغزو الروسي “غزو بوتين لأوكرانيا”، وليس الغزو الروسي، لأن “الدكتاتور” بوتين وما يمثله، هو من غزا أوكرانيا، وبوتين لا يمثّل روسيا وشعبها، فأيّ رئيس يُمضي أكثر من دورتين في الرئاسة يُصبح رئيسًا غير شرعي، ويتحوّل إلى مستبدّ، لأنه لا يستطيع التمديد دون أن يقيم نظامًا استبداديًا، أو أن يكون رئيسًا غير شرعي منذ يومه الأول، كأن يستولي على السلطة بانقلاب عسكري أو بالوراثة عن والده، ولدينا أمثلة كثيرة. ولو أن بوتين سقط في انتخابات ديمقراطية، وسيسقط حتمًا في أي عملية انتخاب ديمقراطية، فإنّ خليفته لن يتعامل مع روسيا بهذه الطريقة التي أرعبت جيرانه الأوروبيين، ودفعتهم أكثر نحو أحضان الناتو، وأساءت إلى سمعة روسيا، فضلًا عن الآثار السلبية الداخلية.
إنّ صمت الغرب عمّا فعله بوتين في جورجيا وأوكرانيا ثم سورية أغراه بالمضيّ في طريقه، وقد أسكره “النصر” السهل في سورية على فصائل المعارضة التي لا تملك من الأسلحة ما تواجه به أسراب الطائرات الحربية وغاراتها، وقد منع الغرب عن قوات المعارضة السورية حيازة صواريخ مضادة للطائرات، وتركهم لمصيرهم، لكن قادة الغرب، حين وقع بوتين في الفخّ وتورّط وأقدم على غزو أوكرانيا، دفعوا بكل قوتهم، وفرضوا عقوبات لم يسبق لها مثيل على روسيا، وقدّموا لأوكرانيا مساعدات عسكرية ومادية سخيّة، كما قدّموا أسلحة تقليدية متطورة، وهي أكثر تقدّمًا من الأسلحة التقليدية لدى الجيش الروسي، فدامت الحرب ثلاثة أشهر حتى الآن، بدلًا من ثلاثة أيام، وما زالت رحاها تدور، ولا نعلم إلى أي مصير ستؤدي حماقات بوتين في هذه الحرب، مع العلم أن استخدام الأسلحة الذريّة أمرٌ مستبعد، وأغلب الظن أن كبار جنرالاته لن يؤيدوه في مثل هذا القرار، وقد يكون ذلك القرار نهايةً لبوتين ومرحلته، ولبدء مرحلة جديدة في روسيا. وفي المقابل، لا يمكن إذلال بوتين وإخراجه مكسورًا، لأنه قد يرتكب حينذاك حماقة كبيرة، ولا شك في أن الغرب ليس مغفّلًا كي يسمَح بأن تخرج حماقات بوتين إلى حيّز الفعل.
لا يخفى أنّ استمرار الغرب الأوروبي والأميركي في التعامل مع روسيا كعدوّ بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، والرغبة في الانتقام منها والسعي لتدميرها ونهبها على مدى عقد، في فترة الرئيس يلتسين، قد مهّد الطريقَ لصعود شخص مثل بوتين، وهذا الوضع يشبه وضع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، فخسارتها الحرب وخضوعها للشروط التي فرضت عليها مهّدا الطريق لصعود الحزب النازي وصعود هتلر.
بوتين رجل عسكريّ بعقلية مخابراتية ترى المؤامرة في كل شيء، والنتائج عندَه نوعان فقط: منتصر أو مهزوم، ولا خيار آخر بينهما! ولذلك يسعى لتحقيق أهدافه بواسطة السلاح، بدلًا من أن يهتمّ بالتنمية والاقتصاد ويجعل روسيا دولة صناعية لها حصة من السوق العالمية. ومن المعروف أن لدى روسيا قدرات علمية وتكنولوجية وموارد أولية وطبيعية فريدة في العالم، ولكنها تحتاج إلى إدارة جيدة، ولكن بوتين لم يسعَ لتطوير تلك الإدارة والاستفادة من الموارد والإمكانات، وترك روسيا دولةً تعتمد على تصدير النفط والغاز، وتستورد كثيرًا من الاحتياجات من الخارج، وهو بذلك لم يتعلّم من درس الصين ولا من درس ألمانيا أو اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، بل ظلّ يهتمّ بتطوير أسلحته وجيشه وترسانته. لذا استخدم أنيابه في الشيشان، وفي جورجيا، ومع أوكرانيا، فقضم جزيرة القرم، وغزا شرق أوكرانيا، وتدخّل في سورية، ليحمي نظام الأسد ويدعمه وارتكبت قواته جرائم حرب من أجل ذلك، وحَال دون تطبيق اتفاق جنيف الأول الصادر في 30 حزيران/ يونيو 2012، والذي وضع صيغة مناسبة جدًا لقيام انتقال سياسي وسلطة جديدة في سورية، هي شراكة بين النظام والمعارضة والمجتمع، بإشراف الأمم المتحدة ودعم المجتمع الدولي.
من المتوقع أن تتوقف الحرب الأوكرانية، وأن يتوصل الجميع إلى اتفاقٍ بعد أن سيطر بوتين على مساحات من أراضي أوكرانيا، ولو بعد بضعة أسابيع، بحيث يكون الغرب قد نال من بوتين وسمعته، وأضعفه داخليًا، وقوّى المعارضة الداخلية ضده بين العسكر أنفسهم؛ بعد أن أدت الحرب إلى موت المئات منهم أولًا، وفضحت أداء الجيش الروسي ثانيًا، وأساءت إلى سمعة روسيا ثالثًا. ولكن في الوقت نفسه لا بدّ أن يترك الغرب لبوتين شيئًا من ماء الوجه، كي يقبل بحلّ وسط، كأن ينسحب هو من أوكرانيا، مقابل تعهّد بعدم دخول أوكرانيا في حلف الناتو، وبمنح مناطق شرق أوكرانيا حكمًا ذاتيًا ضمن الدولة الأوكرانية، وبقاء وضع جزيرة القرم معلّقًا.
على الجبهة السورية، فتحت أميركا وأوروبا سجلّ بوتين وأخذت تذكّر بما فعله في سورية، وخاصة في حلب، وإنما الغرض من ذلك هو النيل من سمعة روسيا، لكن من دون أن يطرأ أي تغيير على مواقفهم تجاه القضية السورية، وليس هناك مساع لمعاقبة بوتين على ما فعله في سورية، ولا سيما أن الغرب لم يُغيّر مواقفه من الصراع في سورية وعليها، فما زالت أميركا ترفع شعار “تغيير سلوك الأسد”، مع أنها واثقة أنه من المستحيل أن يغيّر سلوكه، وما زال مسار أستانة شغالًا، وما زالت اللجنة الدستورية تتحرك، والجميع يعلم أنها ليست أكثر من “طبخة بحص”، وما زال السوريون يستغربون ازدواجية المكاييل، إذ سكتت أوروبا وأميركا على جرائم بوتين في سورية، وهي تفوق جرائمه في أوكرانيا بعشرات المرات، في حين أنهم استنفروا لمواجهته بكل قوّتهم حين غزا أوكرانيا!
من المرجّح أن تُحتوى هذه الحرب وأن تُعالج آثارها وتبعاتها، تدريجيًا؛ لأن استمرارها يعني الوصول إلى حربٍ بأسلحة ذريّة، قد لا ينجو منها حتى من هُم خارج نطاقها، ولا أحد مستعدّ لذلك، وإذا ما وصلت حماقة أحد الرؤساء إلى هذا الحدّ (وحماقات الرؤساء والقادة دائمًا خطيرة) فإنّ النهاية ستكون مرعبة. وقد تتطور الحرب بطريقة تجعل الغرب يسعى ليعاقب روسيا في سورية، وهذا أمرٌ سهلٌ، ولكن الغرب، إلى الآن، لم يقترب من دور روسيا في سورية، وربما ما زال بايدن يريد أن يسترضي إيران بتقديم سورية هديّة لها، كي توقّع الاتفاق النووي، وهو الأمر الذي فعله أوباما من قبلُ استجابةً للشرط الإيراني، وعلى الرغم من أن روسيا قد قلّصت وجودها في سورية، فإنها ما زالت تحتفظ بقوتها الجوية هناك، ويمكنها إعادة نشر قواتها في سورية ببعض الصعوبة، لأن إيران تمركزت في النقاط التي أخلتها روسيا، وربما تتطور الحرب وتنتهي باتفاقٍ يضمن أن تركز روسيا مكاسبها في أوكرانيا وتتخلى عن سورية، أما إذا فشل التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، فإنّ هذا سيؤدي إلى تغيّرٍ في طرق تعاطي الغرب مع القضية السورية، ومن ثم ستتغير كل النتائج الواقعة على الأرض الآن.
في المحصّلة، ثمة احتمالات عدة لتأثيرات الحرب الأوكرانية على القضية السورية؛ فقد ينتهي غزو بوتين لأوكرانيا بطريقةٍ لا تشمل القضية السورية، وحينئذٍ ستكون القضية السورية مفتوحة على مصير مجهول، وقد ينتهي الغزو باتفاقٍ يشمل حلًا للقضية السورية، بطريقةٍ لا تُرضي أيّ طرف، لأن الحلّ الواقعي في سورية اليوم، إن قُيّض له أن يحدث، لن يُرضي أيّ طرفٍ من أطراف هذه الحرب، أو قد يُرضيها جزئيًا وتقبله مضطرة.
عذراً التعليقات مغلقة