تحليق! ..قصة للكاتبة لبابة الهواري

لبابة الهواري3 مايو 2022آخر تحديث :
لبابة الهواري

شعرت بالضّغط يزداد على عينيّ كأنهما ستنفجران، كان الظلام يزداد بذات الوتيرة أيضًا، تحسّست الأرض بيديّ محاولًا سحب جسدي بهدوء، فالألم تسّلق ظهري، احتكت ذراعي بذارع من بجانبي، شعرت ببعض الأمان يشق طريقه بين الخوف الذي اكتسح كل شيء.. همست له: لوين راح ياخدونا؟ 

جاءني صوته يشبه صوت أبي: مابعرف والله يا بيي  

وقبل أن يكمل؛ انقطع نفسي إثر ضربة بحذاء عسكري تلقّتها خاصرتي اليمنى، وسمعت آهات العم الذي همست له، مع جملة: “اخراس انت وياه يا ولاد الـ…….”  

لاح الموت أمامي على الرّغم السّواد، وبقي الوجع يسكن الخاصرة، وأنا أسحب نفسي بهدوء لئلا أكون ضحية ضربة ثانية..  

حاولت ترتيب المشهد من جديد  

كنت عائدًا إلى المنزل، معي بعض الأغراض لمنى، طلبت منها أن تجهز الطعام بسرعة لأنّني سأعود إلى العمل مرة أخرى بعد ساعة 

لكنه الحاجز اللعين!  

كلمات منى ترافقني في آخر مكالمتها: “رح جهز كل شي.. بس أنت رح تجي؟”  

رددت بسرعة من دون تفكير: “طبعًا جاية وين بدي روح؟” 

“وين بدي روح”  

كيف يكون المرء على يقين من نجاته في أرض معركة!  

حاولت جاهدًا التفكير بأشياء مختلفة تعيد الهدوء إلى قلبي، لكن أصوات الشتائم، واستجداءات الضحايا كانت أسرع، تجعلني أفكر بكل الاحتمالات دفعة واحدة..  

مثلهم تمامًا أمسكوني على الحاجز 

 عدة ضربات متفرقة على الوجه 

قيد بلاستيكي يلف اليدين إلى الخلف 

ثم لاصق شفاف يضغط على العينين لمرحلة الانفجار 

وشتائم ترافقنا إلى أن يرمونا على الأرض  

مر وقت طويل/ قصير لا أذكر مدته.. ولم أدر حقيقة كم أصبح عددنا  

فجأة طلبوا منا المشي معهم، تحركنا بصمت، بالكاد مشيت وألم خاصرتي يمشي معي، ظننت أننا في طريقنا إلى أحد الأفرع، تبادر إلى ذهني أنهم ربما يتخلصون منا على عجل، لا أدري أي نهاية أفضل؛ لكني حملت الرعب أيضًا رفيق المجهول والظلام.  

طلبوا منا التوقف، ثم بدأوا يأخذون واحدًا تلو الآخر  

سمعت بعض العبارات، وهمهمات ثم طلقات رصاص، لم أفهم ما يحدث  

 شدني من ذراعي أحدهم: “تعال ولاه…..” 

مشيت دون أن أدري أين أذهب..  

صوت صراخ من بعيد: هاتوا هاتوا  

صرخ “وقف ولاه .. شوف هلأ رح تركض لتهرب من قناص.. انت وشطارتك .. اذا أسرعت ما بيلحق يقوصك”  

كانت التعليمات مرعبة.. كيف أجري وأنا معصوب العينين مقيد اليدين في مكان لا أرى فيه شيئًا..  

لكنها فرصة الحياة الأخيرة سأحاول من أجلها  

تذكرت قول صاحبي “الرصاصة التي تقتلك لا تؤلمك” ربما أنجو أيضًا!  

هززت رأسي  

سمعت الصوت من جديد “رح عدلك عند 3 بتركض”  

تأهبت بكل ما أملك من قوة، وصل الأدرينالين إلى أعلى مستوياته، لا خيارات كثيرة أما الحياة أو الموت.. نسيت كل آلامي للحظة  

وعند كلمة ثلاثة  

انطلقت بكل قوتي..  سأنجو.. لن أخسر بسببهم  

خطوة أولى كبيرة.. خطوة ثانية؛ فجأة شعرت بانحسار الأرض، قدماي تطيران في الهواء، وسمعت صوت رصاصة؛ لكن الألم لم يلمس جسدي هذه المرة.. 

شعرت بخفّة وأنا أحلق .. أكملت خطوات في الهواء. 

بمعجزة ما نجوت! ورب الكعبة نجوت!!  

كعادة الصباحات في رمضان تكون مرهقة بدون قهوة، بالكاد سحبت جسدي من السرير، أيقظت سعيد لأوصله إلى المدرسة، وفتحت دفتر الرسائل وكتبت  

“متعبة اليوم، أود لو أراك للحظة، لو أنّ قدرًا يخبرني أنك بخير”  

أغلقت الدفتر، عانقت سعيد، وتوجهت إلى السيارة، كان مشتعلًا بالحماس كعادته، يحدثني عن مشروعه الذي سيقدمه اليوم للمدرسة، يذكرني دائمًا بوالده، بلمعة عينيه حين يغلبه الحماس  

دمعت عيني والذكريات تحاصرني، يبدو أنها تبعث من مرقدها في مواطن الحنين  

عدت إلى المنزل، حاولت دفن الحنين عبر تصفح مواقع التواصل  

لكنه ليس يومي..  

التغريدات تتحدث عن تسريب فيديو وتحقيق صحفي، وجريمة جديدة، تركت كل شيء وبدأت تتبع القصة،  

صرخت: “حينا هذا !” 

بجنون غير مسبوق بدأت تتبع كل ما يخص الأمر، قرأت كل ما كتبت، شاهدت المقاطع، وبدأت أبحث عنك  

التاريخ المجنون يشير إلى آخر مكالمة بيننا قبل 9 سنوات 

“يا رب ما تكون معهم”  

بدأت أتضرع إلى الله والدمع يغطي كل شيء، احتجت ساعات من البحث قبل أن أصل إلى مقطع الفيديو  

ضغطت على المشاهدة وهربت إلى زاوية الغرفة.. تكورت على نفسي  

وعاد المشهد من جديد  

هاتفي يرن.. يصلني صوت: كيفك؟ 

  • “الحمد لله وأنت؟” 
  • “منيح.. ليكي انا راجع.. جهزيلنا لقمة ناكلها لأنو عندي شغل بعد ساعة لازم كون بالمحل” 
  • “رح جهز كل شي.. بس انت رح تجي؟” 
  • “طبعا جاية.. وين بدي روح يعني؟”  
  • “بانتظارك” 

وأغلقنا.. مرت نصف ساعة.. ساعة.. اتصلت مرة.. مرتين.. عشر.. هاتفك مغلق طوال الوقت  

اتصلت بالجميع، الأصدقاء، والأهل، والأقارب، لكنك اختفيت بلحظ واحدة، بين مكالمتينا اختفيت، ولا أحد يعرف طريقك!! 

حاولت تتبع الأثر للوصول إليك؛ لكن من دون أمل  

بكيت حتى أنهكني التعب.. تسع سنوات خفف طول لياليها سعيد، الذي أتى بعد ذاهبك بأشهر 

سحبت جسدي و9 سنوات من الانتظار، وجلست مقابل الشاشة  

شاهدت الفيديو وأنا أبتهل إلى الله ألا تكون هنا.. ألا أراك..  

لكني عرفتك منذ اللحظة الأولى  

بنطالك الجينز وبلوزتك البيضاء.. وآخر عناق لنا صباح ذلك اليوم  

عيناك المعصوبتين.. ويداك المقيدتين، وخطواتك وأنت تحاول النجاة.. وصوت الرصاصة، تمرّ الثواني القليلة كأنها دهر وأنا أسمع صوت الرصاصة وأراك تحلّق..  

أعدت الفيديو مرة.. مرتين.. عشرًا.. بقيت طوال اليوم أشاهدك.. حلّقت كثيرًا.. طويلًا.. لم تتعب 

لكن أنهكني التعب.. وطول السنين.. ووداعك 

لا أدري كيف مر اليوم.. ولا أعرف كم شخصًا اتصل.. ولا متى عاد سعيد 

فجأة تجمهر الجميع.. وبيت عزاءك يفتح بعد 9 سنوات 

كلهم هنا.. ولا أرى سوى خطوتيك..  

الضجيج يحيط بي.. ولا أسمع سوى الرصاصة!   

حلّقت أنتَ.. وقتلتني الرّصاصة 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل