مشاغب كغيره من الأطفال، لم يغفر له سوى ذكاؤه المُتَّقِد دومًا، لا أستطيعُ طرحَ سؤالٍ كاملٍ إلاَّ ويكون الجواب قد فرَّ من شفتيه، يتبعه بإغلاق فمه بأصابعه العشرة ناظراً للأرض إذ يُدرك جيداً عقوبة المنع عن التحدث لخمس دقائق لمن يجيب بغير دوره، حركته تلك كانت تجعلني أضحك رغماً عني وأغفر له خطأه، كنت أتصنّع الغضب مع ابتسامةٍ يلمح طيفها وأنا أحاول تأنيبه، أو حتى رميه بنظرة عتاب يستقبلها بضحكةٍ من خلف الأصابع البريئة.
هذا كان حال اليوم بطوله مع (زيد)، طفلٌ يجعل من خيمة التعليم مكاناً شهياً للتعلم بذكائه وفطنته وسرعة بديهته، بشرة حنطية وشعر كستنائي ناعم مستدير، وعيون عسلية ناعسة، تختفي حين تظهر غمازاته بابتسامة ممتدة أو ضحكة مفاجأة، يصبح أشبه بطفل صيني، يعطيني شغفًا كل يوم لأجدد الأمل في نفوس الأطفال الذين عكفت على تدرسيهم تطوعًا في هذا الصيف.
أردت تقاسم المعاناة معهم، وإمدادهم بالكثير مما أملك، لربما نستطيع لحاق بعض الدمار الذي تراكم في روحهم، لربما نستطيع صنع المستقبل بيد من خسر كل شيء.
من الخليج قدمت، معي خبرة عشر سنوات تدريسية، وكتب وقصص وكثير من التجارب، ومعي عشق للطفولة جعل إجازتي تتمحور حول هذا الخيمة.
لم يكن طريق الدخول للمخيم باسم معلمة سهلاً، إذ كان من الصّعب على من يقطن هناك تحمّل اقتراب غريب، اضطررت للتطوّع مع منظمة مسؤولة عن إمداد المخيم بالمعونات المادّيّة لأستطيع تدريس الأبناء دون اعتراض الأهالي.
أصل للمخيم صباحاً، فسكني قريب جداً يقع في البلدة القريبة من المخيم.. والتي سُمّي المخيم باسمها، معي جدول اليوم كاملًا، نبدأ عادة بالروتين الصباحي، قراءة للقرآن بداية الجدول، حصة اللغة العربية، ساعة للدعم النفسي غالباً ما نتبادل فيها القصص، نصف ساعة استراحة، نعود بعدها للرياضيات، والعلوم، نصف ساعة استراحة أخرى يتخللها وقت غداء، ثم لغة إنجليزية، وقصص وخبرات.. هكذا يمضي جدولي كل يوم لينتهي اليوم في خيمة التعليم، ثم أخرج أتمشى بين الخيم قليلًا أتعرّف على الأمهات، من أجبرتهن الظروف للعيش تحت رقعة قماش لا تقي من حر ولا من برد، معظمهن أرامل لشهداء، أو زوجات لمعتقلين، قسم منهنّ يعشن مع أزواجهن في هذا المخيم ويشتكين من وجود الزوج أيضًا. أستمع لأحاديثهن، أشاركهنّ التعب، لساعتين أو ثلاث، أعلم يقينًا أنني لا أقدم الحلول لهنّ، ولا أستطيع رفع التعب عن ظهورهنّ، لكنّ مشاركة الحمل مع الآخرين مريحة قليلاً، وهذا ما أفعله، وأعود لمنزلي أكتب ما مر بي، وأحضر لليوم التالي بكامل الشغف والألم سوياً.
عندما أتيتُ إلى المخيم صباح اليوم التالي، وجدت زيداً يجلس عند باب خيمة التعليم أو المدرسة كما يحلو للأطفال تسميتها، يقلّب التراب بعود خشبي يشبه غصناً صغيراً، ابتسمت له وأنا أقترب منه: زيد ألن تدخل؟ حان موعد الدرس. لم يجب زيد، توقفت وانحنيت ليصبح وجهي مقابلًا لوجهه، لكنه ابتعد للخلف قليلاً..
– زيد ما بك؟
أشاح بوجهه وهو يقول: “لا شيء”
حاولت إدارة وجهه إليَّ لأكلّمه، لكنه أبعد يدي بعصبيةٍ وهو يقول:”اتركيني”!
“كما تريد” تمتمت بها، جلست بجانبه وأمسكت غصناً آخر كان مرمياً على الأرض وأخذت أقلب التراب مثله دون أن أنبس ببنت شفه.
– ألن تبدئي الدرس؟
* ما رأيك أن أؤجل الدرس اليوم؟
هزَّ برأسه مؤيداً ولم يتكلم. بقينا هكذا لدقائق أختلس النظر لوجهه الذي يُشِيْحُه كلما لمح نظرتي، ونقلّب التراب..
قلت بدون سابق إنذار:
” أمس كان يوماً متعباً، عملت كثيراً، وسهرت في المنزل لوقتٍ متأخر وأنا أكتب، ثم اتصلت أختي لمدة ساعتين.. وكان عليّ تنظيف المنزل والغسيل”.
ارتفعت عينا زيد إليّ بنظرة حزن وشفقة على حالي، وبقي صامتاً، أكملتُ: “ولم أستطع النوم أيضاً”، بقي صامتاً كما هو لا يحركه شيء.
حاولت الاسترسال بالشكوى؛ لكني وجدت الأمرَ غير مجدٍ، عدت لصمتي، ليقطعه هو بقوله: ضربتْني!!
حاولت ضبط انفعالي لأسأله بهدوء: من؟
-أمي.
* ربما فعلتَ شيئاً خاطئاً.
– يدها كانت قوية.. خدي يؤلمني..
وضع يده على خده، فوضعت يدي على يده، واقتربتُ منه
“أنا أحبها.. لكنها تضربني”، ضممتُه وأنا أقول: سأذهب معك لأكلّمها.
– “ربما تضربك أنت أيضاً”.
ابتسمت وأنا أطمئنه: “لا تخف.. سيكون كل شيء بخير”.
تسربت ابتسامة لوجهه فقلت على عجل: “ما رأيك أن نبدأ الدرس؟ هيا للخيمة”. قضينا وقتاً جيداً بقية اليوم، كنت أحاول إعادة زيد للدرس كلما لاحظت شروده.
في نهاية الحصة اقترب مني، ليتأكد من نيّتي الذهابَ معه. ربّتُّ على كتفه وأنا أضع حقيبتي على كتفي وأمسكت بيده ليدلني على خيمته. مشينا في المخيم، كانت الخيم على مد البصر تتصل مع الأفق، هنا حيث المكانُ أشبه بالخط الفاصل بين الحياة والممات.
دخلنا الخيمة، كانت ضيقةً، فيها فراشان جارت عليهما أمطار الشتاء، بعض الملابس المعلّقة على حبلٍ من أول الخيمة لآخرها، امرأة في أواخر الثلاثين وربما أكثر، في وجهها من الهموم ما يكفي وطنًا! بيدها طفل صغير لم يكمل أشهره الستة، وفي زاوية الخيمة طفلان آخران بعمر زيد، ربما أصغر قليلاً، يلعبان بعلبة مياهٍ معدنية فارغة بديلاً عن الكرة!
عندما رأت المرأة زيداً معي ظهر عليها بعض الارتباك، قبل أن أبادرها السلام قالت: “لابد أن هذا المشاغب تسبب بمشاكل جديدة”.
ابتسمت وأنا أنظر لزيد: “زيد.. اذهب والعب مع إخوتك”، نظر إليّ نظرة امتنانٍ وركض باتجاه زاوية الخيمة، مددت يدي مصافحةً المرأة ومعرفةً عن نفسي:
-أنا معلمة زيد.
-أهلا بك تفضلي.. وأشارت للفراش الممدود على الأرض.
جلستُ بجانبها، سَحَبَتْ وعاءً يشبه القدر ووضعت فيه الطفل الذي كان في يدها، تملكتني الدهشة مما رأيت!! حاولتْ تبرير فعلها: “لا يوجد مكان آمن أضعه فيه وكما ترين لدي ثلاثة أطفال، وأنا بمفردي هنا، وليكتمل النحس فتحوا باب الخيمة ودفعوا لي بهذا الطفل الذي لا أعرف عنه شيئاً –مشيرة لزيد– وليس له عملٌ سوى معاندتي والمشاغبة، كلما وضعت الولد في القدر قام بقلبه، مما يدفعني لضربه! أين أذهب بالأولاد أو به؟!!
قاطعتها: حقيقةً هذا ما أتيت من أجله.
أكملت بسخرية: بإمكانك أخذه إذا كنت خائفةً عليه، المكان لا يتسع لأطفالي ليتسع لطفلٍ غريب!
صَمَتَتْ وصَمَتُّ، وبقينا لدقائق، قمت من مكاني باتجاه زيد، قبلتُه، ثم نظرت إليه وأنا عند باب الخيمة:
سيكون ابني.. قريباً.
Sorry Comments are closed