وقع المحظور وشهدت بيروت حربا أهلية مصغرة، الأرجح أن تكون تمرينا على حروب أكبر منها. فالاحتقان الكبير الذي نجم عن الحملة على قاضي التحقيق في انفجار المرفأ طارق البيطار، نجم عنه تظاهرة لأمل وحزب الله، وقناصين استهدفوا التظاهرة.
هذا المشهد كشف عن هشاشة الوضع الداخلي اللبناني، لكنه كشف أيضا أن أي محاولة لأن تستفرد جماعة أهلية بجماعة أهلية سينجم عنها مواجهة دموية.
لم يكن حزب الله يوماً شفافاً وواضحاً مع اللبنانيين على نحو ما هو شفاف وواضح اليوم. “أنتم رعايا في دولة حزب الله”، قالها الحزب من دون مواربة. أن تطمحوا لتحقيق عادل ومهني في قضية انفجار المرفأ فهذا يفترض أنكم ما زلتم غير مدركين معنى أن تكونوا رعايا في هذه الدولة.
في محطات سابقة كان الحزب يستعين بخطاب يواري هذه الحقيقة. المحكمة الدولية في قضية اغتيال رفيق الحريري مؤامرة دولية. القتال في سوريا إما لحماية مقام السيدة زينب أو لمنع “داعش” من احتلال لبنان.
حماية نظام الفساد ومواجهة المحتجين التشرينيين في الشارع وظيفته “منع الدولة من السقوط”. أما اليوم، فلم يعد من مبرر للمراوغة. ممنوع على اللبنانيين أن يطمحوا إلى الوصول إلى الحقيقة في قضية انفجار المرفأ. عليهم أن يعترفوا جهاراً نهاراً أن من يقرر هو مرشد الجمهورية الذي أرسل مساعده تحت أنظار الصحافة إلى قصر العدل، وأبلغ المحقق العدلي رسالة تهديد واضحة ومعلنة، ومفادها: “سنقلعك من موقعك”. هل من جملة أوضح من هذه الجملة؟
والحال أن القاضي طارق البيطار تلقى الرسالة وعممها في محاولة لحماية نفسه، وهو ما لم يعهده الحزب في أعقاب الرسائل التي يوجهها عادة. لا بل أن القاضي واصل “غيّه”، فانتقل في المواجهة إلى مرحلة مذكرات التوقيف. فعل ذلك لوحده، ومن دون حصانات وحمايات. ارتبك أمين عام حزب الله مرة أخرى، ورفع منسوب التهديد في خطابه الأخير. ستسقط الحكومة إذا ما لم تعزل القاضي.
أطاح نصرالله بورقة توت أخرى. فكشف عن أن الحكومة امتداد له ولحزبه، وهو ما كان يحاول رئيسها نجيب ميقاتي توريته، ووضع ميقاتي وميشال عون في موقع لا يحسدان عليه، فهما إما خادمان للمرشد أو أنهما سيكونان في مهب الريح! والرجلان لا يقويا على مواجهة هذا الموقف، وسيلبيان رغبة سيدهما من دون شك، وهما بذلك سيطيحان بما تبقى لهما من ماء وجه.
لكن الانتقال من التورية إلى الشفافية أملته حقائق مربكة للحزب ولموقعه في لبنان، فهو يحكم بلداً بهياكل لم يكن هو من أنشأها. دولة ولي الفقيه تضطرب إذا ما اشتغلت وفق نموذج “ديمقراطية طائفية”.
الحد الأدنى من التوافق لا يناسب سلطة الحزب، فهذا يعرضها إلى احتمالات تشبه ما أصابها مع طارق البيطار. أي أن يتولى قاضٍ عادي تحديها لمجرد أنه يقوم بعمله. فالمسار الذي أفضى لتكليف البيطار بالمهمة كان مساراً عادياً. تمت تنحية القاضي الذي سبقه، وجرى تعيين بديل له تحت أنظار الحزب. أفلت الرجل من حسابات الحزب في لحظة تخلٍ وصار على رأس تحقيق أصاب الحزب بالذهول.
الإرباك دفع الحزب إلى مستوى آخر من المواجهة، أي العودة إلى الاحتياط المذهبي. رفع نصرالله “البطاقة الشيعية” وقال نحن طائفة كبرى في هذا البلد! هذه العودة تمثل ارتكاسة في موقع السلطة. هي انكفاء في النفوذ على رغم ما توحي به لجهة أنها احتمال مواجهة في الشارع.
تعوز حزب الله خبرة في إدارة موقعه عندما يتعلق الأمر بتوازنات في مشاعر الجماعات. هو يجيد الإطاحة بهذه التوازنات، لكنه هذه المرة لجأ إليها لمنع التحقيق. “الشيعة لا يريدون المحقق العدلي”! لكي تنجز المهمة، على المسيحيين مثلاً أن يوافقوا. من الصعب على ميشال عون أن يفعلها، ذاك أنها ستكون نهايته. فانفجار المرفأ شكل جرحاً جوهرياً للبنانيين عموماً لكن للمسيحيين بشكل خاص، واليوم يمثل طارق البيطار لهم مساراً لوصولهم إلى الحقيقة. لقد رسم نصرالله صورة للمواجهة توحي بأنها بينه وبين المسيحيين.
هذا الفصام في الموقع لطالما أثقل على حزب الله، فهو السلطة الحقيقية في لبنان إلا أنها سلطة تتخبط بحقيقة أنها تدير نظاماً ليس نظامها. ثمة عدم انسجام خانق بين السلطة وبين نظامها، وعدم الانسجام بطن ولادة للتشوهات. ففي الوضع الطبيعي لهذا النوع من السلطات لا وجود لاحتمال أن يصل قاضياً مثل البيطار إلى موقعه، ولا أن يضطر وفيق صفا أن يزور قصر العدل ويبلغ تهديداً للقاضي عبر صحفي، ولا أن يضطر أمين عام الحزب أن يُشهر بطاقة الطائفة لـ”قبع” المحقق.
تجري الوقائع على نحو أكثر سلاسة في العادة في أنظمة يتصدرها نموذج كحزب الله. اتصال هاتفي كاف لوقف هذه “المهزلة”، ولا داعي لزيارة قصر العدل، فهناك لن يعثر الزائر على صحفي، لا بل أنه لن يعثر على قاضٍ مثل طارق البيطار.
عذراً التعليقات مغلقة