أغلقت باب الغرفة، وهي تسحب أوكسجينًا كاد يختفي من العالم، اختلست نظرة إلى ساعتها وهي تجمع أفكارها قبل المحاولة الأخيرة، كانت تعلم يقينًا أن الأمر لا عودة منه، وأنها إن فعلتها هذه المرة فقد تخسر كل شيء، وربما إن بقيت على قيد الحياة ستبقى مشاهدة للعالم عاجزة عن كل شيء!
ارتمت على كرسي المكتب محاولة استجماع أفكارها..
حاصرتها العبارات من جديد
– إياك أن تجربي
– الخسارة بالمرصاد
– الأمر ليس مجرد محاولة
– أنت تجازفين بكل شيء
أحاطتها أطياف الناس الذين يثرثرون سوادًا غطّى حلكة الليل، وسحب الأوكسجين من جديد
انتفضت من مكانها وهرعت إلى النافذة، تسعف رئتيها بهواء يبقيها حتى محاولتها الأخيرة!
“ما الذي تغير؟”
يراودها السؤال كلها عبثت الأفكار بعقلها
يعيدها إلى الحارة القديمة، حين كانت طفلة مترددة خائفة، تحمل حقيبتها، وتمشي إلى المدرسة من طريق واحد، يمر بالملحمة والمكتبة وبقالة أبو عبدو، قبل أن تصل إلى المدرسة، توقن في قرارة عقلها الطفوليّ أن كل الطرق التي لا تمر من هذه الأماكن الثلاثة لا تؤدي إلى المدرسة، حاولت صديقتها إقناعها كثيرًا أن الطريق الذي لا يمر بالشارع التجاري أسرع، لكنها رفضت المجازفة بالتغيير لمرة واحدة، وبقيت في ذات الطريق كل سنوات المدرسة
كبرت مع خوف التغيير، مع خطوات محسوبة جدًا، مع تردد يحيط كل القرارات..
في لحظة غير مفهومة من عمرها، تمرد كل شيء عليها، وتمردت هي مع الأشياء.. باتت أخرى، تهوى المجازفة، تؤمن بمبدأ كليّة الخيارات، الفوز، الخسارة، الانسحاب.. لا مكان للأجزاء
عادت إلى غرفتها بعد أن كسرت عتمة الليل بفكرة محاولتها الأخيرة، جمعت ما يلزمها بسرعة، وتوجّهت إلى السيارة، طوال الطريق فكرت بشكل الهاوية إن خسرت، بطعم الوجع، بحجم الخسارة..
رافقتها الاحتمالات المجنونة
حين وصلت بدأ العدّ التنازلي في عقلها يتناسب عكسيًا مع الأوكسجين المحيط.. وفي اللحظة الأخيرة؛ تسلل إليها رعب مفاجئ، أغمضت عينيها.. واستعدت للاحتمالين؛ فوز وخسارة!
لكنها لم تهوِ.. لم تسقط.. لم تصل.. لم تفز!
شعرت بانسحاب الأرض من تحت أقدامها.. وباتت تسبح بفضاء علوي.. تسربت وحشة إلى قلبها وهي تحاول فهم ما حدث
سيطر عليها خوف آخر، ارتكز في أقدامها، وهي تشعر بخفة جسدها في الهواء
انتشر الرّعب سريعًا في باقي الجسد
حاولت الصراخ فاختفى صوتها، بدت وحيدة في عالم جديدـ
فجأة امتدّت يدٌ وشدّت على معصمها، مدّتها بالأمان..
فتحت عينيها وظلام الليل ما زال مطبقًا.. فلاحت لها ابتسامة تعرفها، أنارت بهدوء، وشدت على المعصم
وغابا في الفضاء الكبير!
Sorry Comments are closed