تواصلت معي، قبل أيام، محطة إذاعية فرنسية واسعة الانتشار في العالم الفرنكفوني لإجراء مقابلةٍ عن حصار القوات الإيرانية والسورية درعا. وقد استغربت هذا الاهتمام، على الرغم من أهمية الحدث، لأن الإعلام الفرنسي قد أظهر منذ فترة لا بأس بها “تعباً” من متابعة الحدث السوري، وصارت أخباره التي تغطي المقتلة السورية نقلا حرفيا لبرقيات وكالات الأنباء، من دون الاستفاضة أو من دون الرجوع إلى تحليل الملف وإبراز عناصره، وتوضيح العوامل المؤثرة في مساراته المتفجرة منذ اندلاع الثورة السورية سنة 2011. وقد ازداد استغرابي عندما تبين لي أن الوقت المخصص للمقابلة يزيد عن سبع دقائق، وهذا في العرف الإذاعي الفرنسي طويل نسبياً. حينها، سمحتُ لنفسي المتطفلة أن تسأل الصحافي عن سر الاهتمام المفاجئ، أو العودة إلى الاهتمام بقضيةٍ تناستها وسائل الإعلام طويلاً، أو أنها تعاملت معها في الحد الأدنى للضرورات المهنية. وقد أيقظت إجابته ألماً مؤجلاً مرتبطا بهذه الظاهرة التي تبدو ظالمة بحق قضية عادلة مستمرة، في ظل صمت دولي واستقالة أخلاقية ندر نظيرهما في البقع الجغرافية الأخرى.
قال لي الصحافي إن الاهتمام هو على قدر وضوح الصورة، وإن التشابكات التي نجحت السلطة السورية في نسجها، إضافة إلى الفشل الذريع للصوت المقابل في طرح قضيته بكلمات واضحة ومباشرة بعيدة عن اللغة الخشبية والمناشدات الإنسانية البحتة، تلعب دوراً برأيه. ويمكن أن يشكل هذا الموقف نقطة بدايةٍ لمحاولة فهم ظاهرةٍ أوسع من حدود البرنامج الإذاعي المعني، وهي تتمثل في ابتعاد الاهتمام الإعلامي عن القضية السورية.
تعاملت الفصائل المسلحة، راديكالية التوجه، مع الصحافيين على أنهم سلع للمقايضة، ولم تلتفت البتة إلى دورهم في تعريف متابعيهم على حقيقة المأساة السورية، بل وهزئت به
المشهد السوري عموماً، ومنذ عقود قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية، مغلق تماماً على الصحافة الأجنبية، إلا عبر التنسيق الإعلامي/ الأمني مع الجهات الإعلامية/ الأمنية المختصة، وهذا يتبع منطقيا انغلاق المشهد الإعلامي المحلي. وكذلك، العقلية الحذرة، والمشككة، والكارهة للحقيقة التي سادت أروقة القائمين على حيوات العباد، لفظت أي اعترافٍ بالدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام في تطوير مدارك الناس المحليين ومعارفهم ومنطقهم، كما الخارجيين. ونادراً ما استطاع صحافيون غربيون الهروب من الرقابة اللصيقة التي تفرضها الأجهزة عليهم منذ وصولهم إلى أرض البلاد وحتى مغادرتها. وبالتوازي، استطاعت دمشق أن تشتري بعض الأقلام عبر وساطة لبنانية احترافية إعلامياً وتسويقياً أو عبر نشر اعتقاد أيديولوجي يُسكر عقول بعض الصحافيين البافلوفيين الذين أعمتهم كراهيةٌ موجّهةٌ ليقبلوا ببؤر استبدادية ويروّجوها، كالراحل روبرت فيسك.
مع اندلاع الاحتجاجات، صارت الرقابة أشدّ التصاقاً بأي صحافي غربي تطأ قدمه أرض الشام، ووجهت تهديدات صريحة إلى من حاولوا منهم الإفلات من هذا التأطير على الطريقة الكورية الشمالية. وساهمت راهبة مستأجرة في التسويق الإعلامي في الأوساط الفرنسية، وعاقبت بشدة من لم يتجاوب مع تعليماتها بالحد من حرية الانتقال على أرض الحدث، ما أودى بحياة عدد منهم. مقابل هذا الوضع، وبعد استنفاد الفرص الشرعية، تسلّل بعض الإعلاميين، عبر خطوط المواجهة، محاولين التعرّف عن قربٍ على الحدث، ونقل الخبر بموضوعية، من دون إغفال تعاطفهم الإنساني الطبيعي مع ضحايا التعذيب وبراميل المتفجّرات والاغتصاب المنهجي.
توقفت إدارات وسائل الإعلام الغربية عن قبول أي سفر للعاملين فيها إلى الأرض السورية
مع اشتداد العنف، وتشتت العمل المسلح وفوضى السيطرة الميدانية، توسّعت رقعة الخوف، لتمتد إلى مناطق لا يسيطر عليها جيش دمشق، وصار من الصعب على الصحافيين الغربيين الولوج إليها، ولو حتى عبر مرافقين محليين، لأن كثيرين منهم سلّمهم إلى بعض العناصر الإرهابية، كجبهة النصرة، مقابل مبلغ من المال. وفي العموم، تعاملت الفصائل المسلحة، راديكالية التوجه، مع الصحافيين على أنهم سلع للمقايضة، ولم تلتفت البتة إلى دورهم في تعريف متابعيهم على حقيقة المأساة السورية، بل وهزئت به. وهذا دليل إضافي على انعدام اهتمام هذه الفصائل بمآلات الحراك الشعبي، ومساهمتها الفاعلة في سرقة (وتدمير) طموحات من خرج ذوداً عن حريته وعن كرامته، وسعياً إلى عدالة اجتماعية فُقدت منذ عقود. إثر ذلك، توقفت إدارات وسائل الإعلام عن قبول أي سفر للعاملين فيها إلى الأرض السورية. وتم بذلك حرمان السوريين من تغطية أخبارهم بشكل فعّال. واكتفى الإعلام الغربي ببرقيات وكالات الأنباء، أو اعتمدوا، بشكل شديد الحذر، على صحافيين مواطنين، لطالما بالغوا، عن حسن نية، في نقل الخبر وتضخيم عدد الضحايا، ظناً منهم أن هذا الأسلوب ربما يستحثّ الآخر على رفع درجة الاهتمام. وبموازاة هذا القحط الإعلامي، طوّر النظام سياسة جلب الإعلاميين الغربيين المنتفعين أو الباحثين عن السبق وجذبهم، فرحّب بهم برقابةٍ أخفّ، وتركهم يتجوّلون في مناطق سيطرته لوصوله الى درجة عالية من الثقة بالخوف الذي ترسّخ في نفوس الناس التي لن تحيد عن الصراط المستقيم قيد أنملة.
اقتصر اهتمام الإعلام الغربي إذاً على مناسباتٍ نادرة، تتعلق إما بالذكرى السنوية لاندلاع الاحتجاجات، أو بمحاكمة تعقد في الغرب لمجرم حرب سوري. كما ساهمت وسائل الإعلام الغربية الناطقة باللغة العربية في تشويه صورة الحراك السوري، لارتباط القائمين عليها من العرب إما بأنظمة ديكتاتورية أو بعقائد متخشبة مؤمنة بالمؤامرات التي تحيط بالعرب.
عذراً التعليقات مغلقة