يشكو السوريون جميعاً من محنة إخراجهم كلياً من دائرة القرار، واستبعادهم حتى من أدنى المداولات التي تناقش مصيرهم. وفي المقابل، لم يعرف السوريون حالةً من الضياع السياسي والوطني، في الحكم وفي المعارضة، كالتي يشهدونها اليوم. والجميع يبحث عن إبرة الحل في كومةٍ من القش.
يسعى بعضهم لاهثاً إلى إحياء ذاكرة شخصياتٍ كان لها أثر في حياة السوريين في النظام أو المعارضة، أو الرهان على أشخاص موهوبين من المفكرين والفنانين الذين يملكون بعض الرأسمال الرمزي الذي يُحتمل أن يبعث الثقة عند الأطراف المعنية، المحلية والدولية.
وبعض ثالث يسعى إلى إنشاء تنظيماتٍ وجمعياتٍ ومنصّاتٍ ومجموعاتٍ سياسيةٍ ومدنيةٍ يمكن أن تحمل همّ القضية الوطنية أو تدافع عنها. وأكثر فأكثر، تتواتر الدعوات إلى توحيد القوى وعقد مؤتمرات وطنية، لعلها تنجح في إنتاج محاور سوري مقنع وذي صدقية لدى الأوساط الدبلوماسية وأعضاء المجتمع الدولي غير المهتم بمستقبل المنطقة.
وفي الوقت الذي يسعى فيه بشار الأسد إلى إعادة تأهيل حكمه بنفسه، كما لو أن شيئاً لم يكن، يسعى شبابٌ متحمّسون من أبناء سورية الناجحين والمبدعين دائماً إلى تكثيف الجهود لفضح سيل الانتهاكات الذي لا يتوقف لحقوق الإنسان، أو تشكيل مجموعات ضغط لحثّ الرأي العام الدولي والبرلمانات الديمقراطية، والكونغرس الأميركي خصوصاً، على عدم القبول بتأهيل نظام الأسد، وإذا أمكن، مساعدة السوريين على تغيير قواعد اللعبة السياسية في سورية بأكملها.
وفي تركيا، يجتهد معارضون إسلاميون وعلمانيون، كي يُبقوا جذوة الاعتراف بمنظمات المعارضة التي أكل عليها الدهر وشرب حيةً وقابلةً للاستعمال ولو مرّة واحدة، ولا يوفرون جهداً في العمل على تحصين أنفسهم من أي منافسةٍ محتملة، وتجنيب صفوفهم أي اختراقاتٍ قد تهدّد مؤسساتهم أو تحرفها عن وظيفتها الرئيسية، كأهراماتٍ تحتفظ بهيئاتهم سليمةً في انتظار يوم البعث، حتى لا تضيع على نفس أحد منهم أي دقيقة من عهد النشور.
وفي الداخل، حيث يرى الناس سكارى، يسعى كل فرد إلى خلاصه على قدر ما تعينه عليه مواهبه وقدراته وأخلاقه الفطرية، فمنهم من يرقص من الخوف، ليضمن أسباب بقائه، ومنهم من يسعى إلى الهرب بنفسه والاختفاء عن العين، ومنهم من يريق ماء وجهه من أجل تسيير أموره مع السلطة الجائرة أو تدبّر شؤونه المعيشية أو تجنب سوط العنف والإذلال الذي تسوم به سلطات الأمر الواقع ومليشياتها سكان المناطق، وفي داخلها مناطق، داخلها هي ذاتها مناطق نفوذ أصغر إلى ما لا نهاية. كل فريقٍ مشغولٌ بردّ القهر عنه أو قهر الفريق الآخر وإخضاعه وافتراسه، إذا أمكن. وفي أثناء ذلك، صارت قضية كل فرد أو فصيل نفسه وبقاءه، واختفت أو كادت من النقاش القضية الرئيسية.
من هنا، صار من الضروري للخروج من الدوران في الحلقة المفرغة إعادة تعريف هذه القضية: هل هي إسقاط الأسد، أو دفع الظلم عن السنة، أو حماية العلويين والأقليات من ظلم محتمل، أو إصلاح الإسلام وتحريره من السياسة والشعوذة القرسطية، أو نشر العلمانية وإقناع الجمهور الشعبي بها ضد الطائفية، أو إعادة اختراع الولاءات الوطنية بدل الولاءات الأهلية والعضوية المتنامية، أو معارضة مشروع انفراد حزب الاتحاد الديمقراطي بحكم المنطقة شمال الفرات وشرقه أو بالعكس طرده منها، أو طرد الاحتلال الأجنبي، أو إيجاد حلفاء خارجيين، أو الحدّ من تغوّل الإيرانيين، أم التعاون لإقناع الروس على تقديم وصفة أفضل لإصلاح النظام، أو التمرّد على كلّ شيء، أم تعميق اليأس والكراهية بين السوريين؟.
جميع هذه القضايا أو الأهداف موجودةٌ ضمن ما نسمّيه اليوم أزمة المعارضة، بل معسكر الثورة السورية المتفاقمة. وهي التي تفسّر استمرار انقسام السوريين وضياع قرارهم الجماعي. وحتى لو كانت معظم هذه القضايا التي نشأت من الأزمة المديدة على درجةٍ كبيرةٍ من الأهمية، ولا يوجد ما يحول دون التفاهم عليها بين السوريين، إلا أن طرحها الشللي أو الجزئي بالانفصال عن القضية الأم يفاقم من الأزمة، ولا يفتح أي طريق للحل. فمن دون ربطها الصحيح بهذه القضية لن يكون من الممكن وضع أجندة سياسية تجمع من حولها أفرقاء لهم مصالح وأولويات مختلفة، لكنّ أياً منهم لا يستطيع أن يحققها، طالما بقيت في تعارض مع أولويات أفرقاء آخرين.
وهذا ما يجعلنا نتخبّط منذ سنوات طويلة في مستنقع من المشاعر والشعارات والأوهام المتبادلة الذي صنعناه بأنفسنا، لكننا لا نتقدّم خطوة واحدة على طريق الحل، ولا يتقدّم أي فريق في الاقتراب من أهدافه وتحقيق أجندته الخاصة. وبدل أن تتراكم جهودنا لتحقيق الهدف المشترك الذي غيبته الأولويات الخاصة تهدر جهود الجميع. وبدل أن نقترب من تجسيد حلمنا بوطن يحضن الجميع، وينهي حكم القهر والتعسف والتمييز بين الأفراد والجماعات، نبتعد عنه كل يوم أكثر.
ماذا تفيد، على سبيل المثال، جهودنا في صنع اللوبي السوري الأميركي إذا لم يكن هناك قيادة سورية تحظى بالصدقية، وتراكم لصالحها وصالح القضية الكبرى هذه الجهود المادية والسياسية، الفردية والجمعية؟ وماذا يقدّم الدفاع عن السنة، أو الاعتراف بمظلومية الأقليات، إذا لم تكن هناك رؤية وإرادة للعيش المشترك، ولإعادة توحيد المجتمع والشعب؟ وماذا يفيد الاعتراض على الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو الإدارة الذاتية “بالإكراه” إذا لم يكن هناك في الأفق بديل وطني يحل محلها ويتجاوزها، ويقدّم للسكان من كرد وعرب حلاً آخر غير الاستسلام والقبول بسلطة الأمر الواقع؟.
ولماذا الخوض في مقاومة وطنية ضد الاحتلالات العسكرية الأجنبية إذا كان البديل القائم سلطة المليشيات الخاصة، وكان الاحتماء بقوى الاحتلال هو أمل الناس جميعاً، موالين ومعارضين، في تجنّب مزيد من بطش هذه الميليشيات، ومنها ميليشيا الأسد، وانتقامها وتنكيلها بالصغار والكبار؟.
ولماذا نريد للجمهور والشعب السوري أن يتجرأ على الاعتراض أو الاحتجاج على الأسد، ويرفض التسليم بالأمر الواقع، إذا لم يكن هناك خيار وطني، واضح ومقنع، بل أي خيار وطني محتمل؟ ولماذا سيتبرع الروس والإيرانيون بتقديم تنازلاتٍ للسوريين، أو مراعاة كرامتهم وحقوقهم ومصالحهم، إذا كان بإمكانهم أن يحصُدوا حصة الأسد بمجرد إبقائهم على حكم الضبع الكاسر في سورية؟.
ولماذا يدخلون في تنافسٍ فيما بينهم إذا كان بإمكانهم تقاسم الحصص والنفوذ والاستفراد بجميع الموارد والحقوق والمصالح مع الأسد وبمباركته وتعاونه؟ ولماذا نتوقع من الأمم المتحدة أو بايدن والإدارة الأميركية أن يرأفوا بحالنا إذا كنا نحن أنفسنا لا نرأف بحال شعبنا، ولسنا مستعدّين لتقديم أي تنازلاتٍ فيما بيننا للحفاظ على وطنٍ يكاد يفلت من بين أصابعنا ويخرج من جسدنا؟
يراهن أكثرنا على فكرةٍ لا سند لها تقول إن استمرار الأوضاع كما هي عليه سوف يقود إلى الانهيار، وإن هذا الانهيار ليس من مصلحة أحد. ولكن من قال إن الانهيار لم يحصل، وإنه يتعارض مع مصالح الروس والإيرانيين والمليشيات وأمراء الحرب السوريين أنفسهم الذين يتمنّى كل واحد منهم أن يهرب بحصّته ويشيّد مزرعته السورية الخاصة، على حسب ما يملكه من قوة وشره؟.
ومن قال إنه ليس بإمكان الدول الغربية والعربية التي يمكن أن ينعكس عليها انهيار البلاد سلبيا ليست قادرةً على فرض حصار على سورية، ووضعها ضمن صندوق، وإغلاقه على شعبها، بالتعاون مع قوى الأمر الواقع، الأجنبية والمحلية، وإشغاله بعضه ببعض إلى أجل غير مسمّى؟ أليس هذا ما يحصل الآن؟.
ألا تعيش سورية اليوم حالة انهيار اقتصادي وسياسي، مع تحول الدولة إلى عصاباتٍ تتحكّم فيها عصابة دولية أكبر عابرة للحدود، وأن هذا الانهيار هو الذي يعزّز موقع الإيرانيين والروس ويتيح لهم توسيع قواعد وجودهم في سورية، وتحصين مكتسباتهم وإيجاد مستعمراتٍ داخليةٍ حقيقيةٍ داخل البلاد، بصرف النظر عن الفوضى المحيطة بها؟.
عذراً التعليقات مغلقة