* قلت لكَ لن أتراجع عن السفر..
– أرجوكِ فكري لا زال لديكِ متسع من الوقت.
* (حازم) سأنهي المكالمة، مللتُ الحديث في الأمر ذاته
– لكن قرارك يستوجب علينا محاولة ثنيكِ عنه.
* عن أي قرار تتحدث؟ هل جربت أن تعيش في بلد دون أن ترى زوجتك وأولادك لأكثر من سنة؟!
ثم.. كفّ عن النظر من زاويتك، فكروا بي.. أنا زوجة بعيدة عن زوجها منذ شهور طويلة تربّي أربعة أطفال في بلد لم تهدأ ثورته يومًا!
بقي حازم صامتًا.. فأكملتُ قبل أن يحاول الردّ بحجّة أخرى:
انتبه لنفسك.. أراك غدًا في المطار.
وأغلقتُ الهاتف قبل أن أسمع صوته.
حازم هو أخي الأصغر، أكبره بثلاثة أعوام وحكايات كثيرة، تجعل فرق أعوامنا كبيرًا، فصغير العائلة يبقى في نظر الجميع صغيرًا.
على مدار عشرة أيام تحاول عائلتي بكل ما مُنحت من طرق تفكير وبكل ما أوتيت من طرق إقناع؛ ثنيي عن قرار سفري إلى أوروبا بحرًا عن طريق تركيا، وكانت آخر المحاولات مكالمة حازم السابعة التي أنهيتها قبل قليل، محاولًا التأثير عليّ إذ يعلم جيدًا مكانته عندي، لكن الأمر كان محسومًا، وطرق التراجع مغلقة المعابر!
أعلم أن الفكرة تبدو كجنون نشاهده عبر الشاشات فحسب، ولم أتخيل يومًا أن أكون بطلة هذا الجنون وأشارك في صنع الحكاية التي سأجازف من أجلها بكل ما أملك بما في ذلك أطفالي الأربعة..
عقب مكالمة حازم حطت الكلمات بثقلها في الغرفة تزاحم الأوكسجين الذي أتنفسه، لم أطق فعل شيء، الاختناق يتمكن من خلايا جسدي تدريجيًا، يكتم الأنفاس، صراع الكلمات يتصاعد في عقلي فيما أحاول ضبط إيقاع التوتر، ولئلا أفشل ارتديت ملابسي على عجل، تركت (إباءً) و(تيماً) مع (أنسٍ) ابني الأكبر، وخرجت، كان (محمود) ابني الثاني لا يفارق بيت جدته منذ قررنا السفر، بينما يبقى أنس معي لترتيب أمور المنزل والسفر، وينتبه لإخوته إباء بسنواتها الخمس، وتيم ذي الأشهر التسعة.
لم يُكتب لتيم رؤية أبيه إلا عبر الصور ومكالمات السكايب، فقد مر عام كامل على سفر (عدنان) محاولًا البحث عن سبل للعيش خارج البلد، بعد دخول الثورة عامها الرابع.
كان تيم قد تكوّر في بطني بشهوره السبعة، عانقني عدنان مودّعًا في المطار، والدمع يغسل ما تبقى فينا من ألم. مسحتُ دمعةً فرّت من طيف عدنان الغائب عني.. وأنا أتنفس خريف البلد لمرة أخيرة، كنت أمشي على غير هدى، لا أقصد وجهة بعينها، أريد احتضان كل شيء بعيني، أريد الاحتفاظ بكل هواء البلد في رئتي، أريد أخذ كلّ من أحب معي!
مساء اليوم التالي كانت العائلة متجمهرة حولنا في المطار، أنا وأطفالي الأربعة، أنس يمسك بيد إباء، وأنا أحمل تيماً، فيما بقي محمود بجانب جده يعانقه، مشهد كئيب، لم أحب يومًا الوداع، لم أطق رؤية دمع من أحب، حازم وأنس تكاتفا لجعلنا نضحك بإطلاق النكات السخيفة، وحدها الضحكات خفّفت توتر ذلك اليوم، وندرك جيدًا أن الوقت يسخر منّا كلما ازددنا ضحكًا، يسحب بقوةٍ الساعات الأخيرة ليذهب بها، وحدنا من قاومنا شعور الرحيل بضحك يخفي دمع العين.. لم أستطع إخفاء نزقي فيما اتخذت من كل ثورات الغضب فرصة لمزيد من الضحكات.
قلتُ بسخرية حين ارتفع نزقي إلى أقصاه: لست حزينة لأنني سأسافر.. اشتقت لعدنان!
لحظتها فحسب سقطنا في البكاء.. أطبق فخّ السخرية بإحكامٍ علينا.. عانقت أمي وأبي وبكيت.. همستُ: لا تصدّقوني، أنا أكذب..
شدني أبي إليه: لا ترحلي
همست وأنا أبتعد ملوحة: ليتني أستطيع
حملنا بقية الحقائب وتوجهنا إلى بوابة العبور، بوابة الوطن الأخيرة، تلملم ذكريات المغادرين وتحملها لهم في الحقائب، تعطيهم آخر هواء للحنين، وتتركهم مع الدمع طويلًا معانقين ما تبقى.
حين بدأت الطائرة بالتحرك انهمرت من عيني دموع حارة، همست والغصص تملأ القلب: “وداعًا”، أمسك أنسُ يدي، وشدّ عليها، كان أنس صديقي المقرب، ابني الذي يعرف كيف يواسي أمه، همس “عائدون حتمًا” ازداد دمعي حينها.
كنت أعلم أنه الوداع، وأنني حين أغادر سماء هذه المدينة فقد اخترت طريقًا بعيدًا عنها، هذا ليس وداعا مؤقتا، هذا رحيل، إنه الرحيل يا بنيّ!
بكيتُ للوداع كأنّ روحي تموت.. تسمية الأشياء بأسمائها متعبة، وتضرب بمطرقة من حديد هشاشتنا لنتساقط أشلاءً لا نعرف كيف نجمعنا.
روحي تحمل كل الأشياء، تحمل الحكايات التي لا يعرفها أحد، الظلم الذي يدفن بمهل دون أن يكتشفه أحد، القهر الذي يكوي الطبقة الداخلية، الأوراق والمحاكم، الموت وأنّات الناس وأوجاع البلد والقصف المستمر والانتظار، والأحكام الزائفة.. والضحك حدّ البكاء.
روحي تعرف كيف يُولد الأسى وكيف يموت، كيف يُدفن، كيف يخرج من أضيق سنتمتر في القلب وكيف تبدو بعده واعيًا جدًا.. ترى الأشياء بوضوح، بوسخها، بحقيقتها، بعالمها الرثّ.
روحي تعرف كيف تنتحب الأم على ابنها سنينًا، وعلى زوجها الذي قضى، وعلى قوّتها التي تتسرب من يدها كما الزمن دون أن تقدر على إيقاف شيء منهما.. لا أدري كم استمر الوقت بالنحيب لكنني نمت دون أن أشعر لأستيقظ لحظة الهبوط، كأن الله أراد رحمة بي في هذه الرحلة الموجعة.
تذكرت من جديد هدفي، دعوتُ: اللهم لمّ شمل عائلتي..
عدنان في انتظارنا في قاعة الترانزيت لنكمل برحلة داخلية إلى أزمير..
كان اللقاء مهيبًا، الكل ينادي “بابا” وهو يعانق الجميع ويبكي، تيم فقط تمسّك بي وبقيتُ على بعد خطوتين، تتابع دموعي إيقاعها الذي لم يتوقف، اقترب مني عدنان، عانقني، تنفسته كأني لم أستنشق أوكسجينًا منذ عام، كان بكائي يزداد وتيرة بدل أن يهدأ، شدّني إليه، قبّل رأسي ثم همس: سيكون كل شيء بخير..
بين انتظارٍ وطريق.. وصلنا غرفةَ الفندق في أزمير بعد عشر ساعات، تساقط الأطفال نائمين من أثر السفر، وجلسنا أنا وعدنان كغريبين/قريبين.
بدا التعب على وجهينا، مكالمات السكايب لم تظهر لي الشيب الذي غزا شعره، ولا تفاصيل الأيام التي تركت أثرها أرقًا تحت عينيه.. أنا أيضًا شختُ فجأة هذا العام، وجهي باهت، عيناي متورمتان، والبكاء يسبق الحروف.
– نادمة؟
* لا أبدًا.. متعبة فحسب.
لم أشأ أن أحمّل عدنان همًا جديدًا، لم أشأ أن يعرف الفراغ الذي خلفته سورية فيّ حين غادرتُها..
تبادلنا بعض الأحاديث عن الطريقة التي سنسافر فيها، وما حدث مع قريبي الذي يرتب الرحلة والتفاصيل الأخرى.. ثم غلبني النوم.
صباح اليوم التالي أخبرنا عدنان أنه تواصل مع المهرّب وأن السفر سيكون ليلًا، تجادلت طويلًا معه، كنت أخاف الليل، لم أرغب في خوض مغامرة مرعبة بكل التفاصيل، بعد دقائق أقنعني عدنان أن الليل أفضل لنا حتى لا نضطر للعودة مع خفر السواحل في النهار!
في العاشرة مساءً انطلقنا، معنا أخف الأمتعة، والأطفال، لم نعلم سوى اسم منطقة أعطاها المهرب لزوجي لنذهب إليها ويكون التحرك من هناك..
عبر سيارة أجرة انطلقنا باتجاه المكان المرتقب، وحين وصلنا وجدنا المكان معتمًا مخيفًا، ولا ملامح لأي شيء من حولنا.
بقينا ننتظر، ثم جاءت حافلة صغيرة، بلا نوافذ من الخلف، وطلبوا منا الركوب فيها، فركبنا، مشت الحافلة قليلًا ثم توقفت ليصعد أناس آخرون، وهكذا بدأوا بتجميعنا، امتلأت الحافلة من الخلف ولا زال السائق يمشي قليلًا ويتوقف ليصعد آخرون والكل متجه لنفس الهدف، بدأت الأعداد تتزايد ولم يكن هناك مكان لأحد والأطفال يصرخون، فيما اختنقنا من قلة الهواء، الصراخ والضرب على النافذة التي تفصلنا عن السائق لا يهدأ، نكاد نموت من كثرة الراكبين وقلة الهواء، وهو لا يسمع أحدًا منا.. ثلاث ساعات مرت قبل أن يتوقف ونبدأ باستنشاق الهواء!
وصلنا للشاطئ حيث ينتظرنا (البلم)، كنت خائفة.. نظرت لعدنان وقلت: لا أريد هذا القارب لا يحمينا سنغرق!
-لا مجال للعودة..
* لا أريد، أرجوك.. دعنا نعود!
تمالك عدنان أعصابه في الوقت الذي بدأت أفقد أعصابي فيه، اقترب مني مهدّئًا وهمس: لا أحد يعرف الطريق، لن نستطيع العودة كما ترين، ثلاث ساعات مرّت من تلك النقطة.. كيف سنعود؟
على مضضٍ ارتديتُ سترة النجاة وتأكّدت أنّ أولادي يرتدونها، وبدأنا نصعد إلى البلم، كنا سبعين شخصًا بين رجال ونساء وأطفال، وربّان البلم شخص سوري من مدينة ساحلية، مما بعث الاطمئنان في نفوسنا، ابن البحر سيوصلنا، لكن من مأمنه يؤتى الحذر؛ تاه ابن البحر في البحر، وغدره الموج فلم يعد يعرف جهة ولا طريقًا، وبقينا في عرض البحر أربع ساعات، معلقين في السواد، الأطفال يبكون، وتيم في مقدمتهم لم يهدأ لحظة، الرعب دبّ في النفوس، وبدأت المياه بالتسرب إلى البلم، الخوف يعّمنا وعدنان يحاول تهدئتنا، الماء يلامس أطرافنا ويزاحمنا في البلم الذي بدأ بالترنح في عرض البحر، نداءات استغاثة بدأت تضج في المكان..
الرعب وصراخ الأطفال، والضياع، والغرق، لا أحد سواه يسمعك الكل ينادي:
” يا الله.. يا الله”
خلع أنس ومحمود أحذيتهما مثل باقي الركاب وبدؤوا بمحاولة تفريغ البلم من الماء بالأحذية، ثم طلبوا منا رمي كل ما نحمله وتخفيف الأمتعة والملابس والأحذية، فيما حاول آخرون مع عدنان الاتصال بخفر السواحل وطلب النجدة
الكل يستجيب للمطالب دون نقاش، أرواحنا معلقة بين الأزرقين، والسواد يبتلعنا، أصوات الشهادة تتردد على أذنك بين الثانية والأخرى.
تشبثت بعدنان وتشبث الأطفال بي، والماء يعانقنا جميعًا، وأنا أرتجف وأنادي يا الله، لمحتُ دموع عدنان لحظتها، كان هو القوة التي أستند إليها، حينها انهارت قواي وأدركت أننا سنكون شهداء الغرق، نطقت بالشهادة والتزمت الصمت ومناجاة الله..
لا أدري كم مرّ من الوقت قبل أن نلمح خفر السواحل، عاد الأمل إلى النفوس وبدأت التكبيرات تعلو مع الدموع، أنقذنا خفر السواحل ونُقِلنا إلى فرعٍ للشرطة، لنبقى فيه ليلة كاملة قبل أن يخلوا سبيلنا ونعود..
خرجنا بعد أن سمحوا لنا كالمشردين، بلا أحذية ولا أمتعة نمشي في الشوارع نبحث عن أي مكان لشراء أحذية، لشراء طعام، لأيّ شيء يسد الرمق ويعيد الحياة إلى وجوهنا، كنت قد احتفظت بحقيبتي أثناء رمي الأشياء، بها نقودنا والجوازات وأهم الأوراق..
عدنا مرة أخرى إلى الفندق، لنخطط من جديد، من حسن الحظ أن قريبي كان قد اشترط على المهرب عدم تسليمه النقود حتى نصل إلى ضفاف اليونان.. ولأنّ المهرب أخلف، كان قريبي ما زال يحتفظ بالثمن الباهظ الذي يأخذه المهرّب أجرةً عن كلّ شخص يعبر، وهو ما يقارب ألف يورو!
هذه المرة.. احتاج الأمر عشرة أيام للحصول على مهرّب آخر، ولنشترط السفر نهارًا
خرجنا في منتصف الليل لنصل إلى نقطة التجمع، حين وصلنا كانت النقطة مقبرة!!
رعب عظيم تسرّب إلى قلبي وأنا أراني أمشي بين القبور في الليل، احتاج الأمر عدة ساعات قبل أن يتجمع المسافرون وتبدأ رحلة الانتقال إلى النقطة الساحلية، هذه المرة كان الانتقال عبر شاحنة مغطاة..
نظرت كمن يتوقع الموت، عدنان يعرف أنني لن أستطيع الركوب في الخلف مهما حدث، بدأ يفاوضهم على ركوبي مع إباء وتيم في الأمام ويبقى هو ومحمود وأنس في الخلف، طال النقاش وتوصلوا في النهاية لأن ندفع مبلغًا إضافيًا مقابل ركوبي بجانب المهرب وسائق الشاحنة وشخص آخر، مع ابني تيم فقط، ويعود البقية إلى الخلف..
وافق عدنان وبقيت أنا خائفة، إباء صغيرة لن تستطيع احتمال الشاحنة، عدنان حملها على كتفه لتبقى في الأعلى وصعد بها مع الأطفال، فيما ركبت مع تيم من الأمام..
هذه المرة تمكن الخوف مني بطريقة ثانية، وجدتني وحدي بعيدة عن أطفالي وزوجي، لا أعرف ماذا يحدث لهم في هذه الشاحنة الضخمة مع كل المسافرين الذي ركبوا، وجدتني ضائعة خائفة مرة أخرى، دعائي لا ينقطع.. وقلبي لا يهدأ، ظننت أني لن أراهم ثانية، أن رحلة التشرّد بلا عائلة قد بدأت..
بعد خمس ساعات توقف الشاحنة ووصلنا إلى الشاطئ، بدأت أبحث عنهم بين المسافرين لأجدهم كالخارجين من الموت ولا أعرف حينها أنهم قضوا الساعات الخمس واقفين على قدم واحدة بسبب ضيق الأماكن!
تسرب الصباح إلى البحر ليطمئن القلوب التي هدّها الرعب طوال الليل، بعد ساعات انتظار طويلة، أتى دورنا على متن بلم من جديد، تذكرت مشهد الغرق.. الماء المتسرب.. ارتجاف أطفالي.. الرعب الذي عشته.
تشاجرت مع عدنان.. وركبت على خوف ومضض، أعانق كل شيء، أودّع حياتي، وأهلي وكل الناس.
أردّد الأدعية وأنادي الله بقلب متعب
هاج الموج في وجوهنا، وبدأ البلم بالترنح، ساعة ونصف في عرض البحر، يضربنا الموج، والماء المالح يقتص من جراحنا ما شاء، معلقين باللاشيء، الرعب رفيق الدرب، والقلوب بلغت الحناجر.. وظننا بالله النجاة ..
ساعة ونصف قبل أن نلمح اليابسة ليتحول الخوف إلى فرح عارم..
حين لامست أقدامنا اليابسة بدأ الناس يصرخون من الفرح ويضحكون ويعانقون بعضهم مهنئين، وحدي جلست أبكي على اليابسة، وحدي جلست أنتحب، وحدي لا أعرف الفرح.. اقترب عدنان مني:
– وصلنا .. الحمد لله على سلامتك .. وصلنا أخيرًا وصلنا!
لاح أمامي بلم آخر يقترب، التفتُّ إليه وقلتُ وأنا أشير:
* مجانين! ما الذي يجعلهم يأتون، قل لهم ليعودوا!
ضحك عدنان: قبل دقائق كنتِ مكانهم.. قبل دقائق فقط
* أعرف .. أنا مجنونة أن فعلتها.. أنا مجنونة حين خضتُ رحلة الموت!
عانقني عدنان وهو يضحك.. فيما امتلأت بالبكاء.. لنبدأ رحلتنا في أوروبا.
Sorry Comments are closed