كحموية عاش أهلها في ذلك الشهر الدَّامي كان من الطبيعي جدًا أن أكبر وأخبار المجزرة ترافقني، ومع كل شباط يتجدد الألم في وجوه والديّ كأنها الأمس. أذكر أنني في الصف الخامس الابتدائي تسللت إلى مكتبة والدي وبدأت بقراءة كتاب (حماة مأساة العصر)، كنت أخاف كثيرًا من الرعب الذي كُتب في صفحاته، أقرأ قليلًا وأبقى لأيام طويلة أعيش القصص بتفاصيلها، تنام وتستيقظ معي، أرى الناس تموت في الشوارع وهم لا يموتون، أرى المساكن تهوي وهي لا تهوي، أرى الجيش وقد صفَّ الرجال صفوفًا تساوى فيها الكبير بالصغير، والشيخ بالشاب، ثم جعل الموت يزورهم واحداً تلو الآخر، لا أعرف النوم إلا بعد أرق وكوابيس تلازمني صرخات المعذبين، وصور آلات التعذيب، أبقى لأيام على هذا الحال ثم أعود لطبيعتي، وأكرر العملية بين الحين والآخر لأرضي فضولي عمّا حدث في شهر وقلب موازين العالم وحرمني من رؤية سورية حتى اليوم!
في الإعدادية أكملت الكتاب كاملًا ولن أخبر أحدًا عن الخوف الذي عشته، ولا عن البكاء الصامت الخفيَّ الذي كنت أخبئه عن الجميع، سأكتفي بالقول إن أسماء الشهداء كثيرة بما يكفي لتدفن نصف العالم في خيبته! احتجت أن أصل إلى الجامعة لأقرأ عددًا لا بأس به عما كتب عن المجزرة وأسمع شهادة أمي كل شباط لتذكر لي المزيد، ووصلت أخيرًا لتصورٍ لا بأس به عن طبيعة الوضع في ذلك الوقت، وعما حدث..
أعداد متفاوتة من الشهداء والمعتقلين تصل إلى آلاف حسب التقديرات والتقارير الحقوقية التي لم تعطٍ رقمًا واضحاً بسبب الظرف الذي رافق المجزرة والتغييب الإعلامي، ومثلهم من المفقودين، أو المعتقلين، وما يقارب المائة ألفٍ من المشردين في ذلك الوقت.. ومدينة مهدمة بنسبة كبيرة، حيث أزيلت أحياء كاملة عن الوجود، واستهدفت جوامعها (88 جامع تم تدميرهم وثلاث كنائس، والأحياء الأثرية القديمة).
بقي السؤال الذي يلح عليّ باستمرار: ماذا حدث بعد المجزرة؟ كيف عادت الحياة للمدينة المقهورة؟
قبل فترة حاولت البحث بجدية لأصل منها إلى تفاصيل الحياة اليومية بعد المجزرة وأوثقها في تقرير فكل ما كتب في ذلك الوقت وإلى الآن ركز على المجزرة وتفاصيلها، بحثت في الكتب والمواقع وشاهدات الناجين، لم أصل لجواب دقيق، لأن من نجوا وبقوا في حماة رفضوا الحديث، ومن كان خارجها صعب الوصول إليهم، والكثيرون رفضوا ذكر الأسماء، لذا اكتفيت بهذه التدوينة، لأكتب ما عرفته بشكل عام عما بعد المجزرة وهو بالمجمل كان التالي:
قبل وخلال المجزرة وبعدها استطاع النظام أن يزرع الخوف في حماة كجندي له لا يكل ولا يمل، سيطر الخوف على النفوس، واكتوى الناس بنار الفقد التي طالتهم في الأحداث سواء كان لهم ذنب بها أو لم يكن، وبقي الرعب يسكن في قلوبهم، من كل ما يخص النظام الأسدي من قريب أو بعيد، هذا الرعب جعل الناس يلوذون بالصمت كثيرًا، ويخافون التحرك، حتى بعد بداية الثورة كان الآباء الذين شهدوا ما حدث في حماة يرفضون خروج أبنائهم لأنهم عاشوا فزعًا لم يمر على البشرية، وبقي النظام طوال العشرين سنة الفاصلة بين الثورة والمجزرة يعمل على تغذية هذا الخوف؛ باستدعاءات مفاجئة للناس ليروي لهم تفصيلًا من حياتهم، ويسألهم عن أقرباء خرجوا من حماة منذ الأحداث، وأحيانًا يحتجزهم لديه بحجة تقرير وصله، وقد يطول الأمر ويكون اختفاء للشخص المستدعى!!
ما زلت أذكر أننا عندما كنا في الأردن أتت قريبة لنا من سورية لزيارة أهلها ثم جاءت وزارتنا، وعندما عادت إلى سورية استدعيت إلى فرع الأمن وهناك ذكروا لها أمر زيارتها لنا!! هذا التفصيل البسيط ومثله الكبير يزيد الرعب في النفوس أضعافًا، فالإنسان يفعل الشيء ويشعر أن ثمة من يراقبه وسيحاسبه أيضًا!!
الأمر الآخر الذي حدث بعد المجزرة هو زرع المخبرين في كل مكان، عمل النظام على استقدام عائلات ليست حموية وتسكينها في الحارات، لتكون عيونًا له، إضافة لضعاف من النفوس من أبناء المدينة نفسها، من ارتضى بيع نفسه بمال يأخذه باستمرار مقابل تقارير مستمرة عن كل التفاصيل التي تدور في المنطقة المكلف بمراقبتها! ومن يكُتب عنه تقرير يتم استدعاؤه أو مداهمة بيته وأخذه، وإن كان التقرير كاذبًا، فهناك لا أحد يتحقق من صحة ما يرد في التقارير، يأخذون المعتقل ويذوق من العذاب أصنافًا كان يسمع عنها، وقد يخرج وقد لا يخرج، يعتمد الأمر على الواسطة التي سيحاول أهلها توسيطها، وعلى كمية النقود التي ستدفع، وقد لا يفلح الأمران ويختفي الشخص دون أن يُعرف عنه أي معلومة!
أما عن أحوال الحياة اليومية وتفاصيلها فكل ما استطعت معرفته أن الناس عاشوا بحزن لسنوات، ولبست النساء الأسود على من فقدوا، وكنَّ كلما التقينَ غلبهن البكاء. فلمسة الحزن والكآبة رافقت المدينة لوقت طويل.
وروت لي إحداهن أن أهالي حماة بعد المجزرة أصبحوا أكثر رأفة ورحمة ببعضهم، واحتاجوا ما يقارب الشهرين لعودة المدينة للحياة، وتعاونوا مع بعضهم للتخلص من الجثث عن طريق جمعها في دكّان وحرقها، وأخبرتني أن جثث أقاربهم كانت معهم، واختتمت الحديث ” كان السجاد إذا عُصر خرج منه الدم”!
أما أنا فلا أستطيع تقبل هذه الفكرة، كيف يجمع ثلاثون ألف شخص في مكان ويحرقون، ربما كان عدد قليل ما جُمع، وربما كانت تقصد حفلة الشواء التي أقامها النظام خلال المجزرة حين حشر عددًا من الشباب والرجال في دكان وأشعل بهم النار أحياءً.. وأعود لأقول لا يوجد لدي تفاصيل حقيقة، فما حدث كان هولًا لا يوصف، وعودة الحياة بعدها للمدينة كانت كمعجزة أيضَا.
وقبل عدة سنوات احتفل النظام بذكرى المجزرة على طريقته فأعاد نصب صنم حافظ الأسد إلى المدينة، الصنم الذي أسقطه الأهالي في حزيران من السنة الأولى للثورة.. كأنه يذكِّر من نسوا أن القاتل حاضر بينهم، والصمت سيزيد البلوى أكثر..
عذراً التعليقات مغلقة