* مرام محمود
الوجع يعتصرهم ويدمر قلبوهم المتعبة من الخيبات المتكررة.. أبطالنا المجهولون المتأوهون لمرارة الفراق يخرجون.. يبتعدون عن ذاكرتهم الملأى بكل ماهو جميل وحزين .. تاركينها ربما إلى الأبد ،فارضين على أنفسهم الولادة من جديد وبذاكره فارغة.
داريا تلك الطفلة الضائعة، التي تركت يتيمة وحيدة وضائعة تذرف دموعها وسط الظلام، عوض تكفيف دموعها بأنامل حانية اقتلعوا مقلتيها الحمراوين.
لم يكن الفراق عن مكان الولادة أمراً هيناً ولن يكون.. لحظات موحشة مدمرة وتعبق بها رائحة الموت التي التصقت بأجسادهم الهزيلة.. ليبقى ذلك الوطن ذو اليد الناعمة والوجه الباسم والعجوز.. جميل نعم .. جميل كلمة بسيطة لكنها تزهر بداخلنا ونسرح معها لزوايا سعيدة ملونة ولتدنو من مسامعنا همسات بصوت فيروز عند الصباح.
فالوطن ليس مجرد كلمة، انه حياة، شريان .. انه كالإنسان ينتظر عودتكم .. عودتنا، سيظل متمسكا بنا ينادينا لنسير على دروبه من جديد، وأن تبقى جميع طرقنا تفضي إليه وحده، إلى حضنه الذي علمنا وسيعلمنا معنى كلمة الحياة بكل صعابها، إن كنا بحضرته أو بعدها .. ستبقى دروسه قاسية موجعة وتترك علامة.
داريا .. إنها الأرض.. البيت.. الحجارة.. كنز ثمين من الضحكات، الحياة كلها تختصر بالعيش بين جنباتها، تلك الأيادي الأجنبية تسرقها من بين أجفاننا .. دماؤنا.. وجوعنا .. حتى خوفنا.. يختطفون حبيبتنا من بين حقيقة واقعنا وتكالب بائعي الضمير عليها، نحن ندرك أنها تلك الأرض الوفية لن تهرب ولن تنسى، وسيبقى جسدها في حضرة الانتظار لضمها من جديد فإن شوقها لنا أضعاف مانشعر به.
داريا .. أنت الحياة و بوصلتنا ومكاننا المقدس.. فيك نلامس أرواحنا ودماء شهدائنا، فما نزال نسمع وبوضح مآذن تصدح للصلاة ، وأقداماً صغيرة تلعب بين أزقتها هنا وهناك، وأحاديث الجيران وضحكات وشجار الكبار والصغار.. ماتزال أصواتهم ترن في الأرجاء برغم تعالي تلك الآهات الخارجة من بين جدران منازلها المشققة وأصوات قرقعة البطون الخاوية حتى من لقمة خبز يابسة، وهدير طائرة حربية تخترق جدار الصوت وجدران أضلع صغارنا.
دموعكم أهلنا معجونة بقهرنا وعجزنا الفاضح.. نحن أسفون.. ولكم الحق برفض تلك الكلمة البائسة التي لاتعوض عن أي شيء عايشتموه، فالغصة التي في الحلوق والفؤاد قاسية لا ترحم، قد نستشعر بها بقدر ما، لكن ليس كما أنتم، فـالتضحيات المقدمة من قبلكم لاتقدر، وتعجز أكبر العقول على فهمها وإعطائها حقها.
نعم اليوم ستفارقونها ونفارقها معكم لتبقى تلك الأرض تشرب تخاذل الجميع، و لتطأها أقدام أشخاص لم يكن بين أضلعهم للمودة والرحمة مكان، ستكون داريا بين أيدي مجرمين قاتلين مشبعين بالموت، بالعار، استقدموا غماماً مشبعاً بالسواد القاتم، غماماً يشبه قلوبهم، مانعين ضوء الشمس من الاقتراب، ومشبعين الهواء بأنفاسهم الكريهة، قاتلين معهم آخر ماتبقى من الربيع ومن الأمل الذي تعلق بالجدران الباقية، والتي لن يعرف قدرها سوى من أجبر على هجرانها.
قد تكون هناك عودة، لكن متى وكيف؟ هذا صعب التكهن به، لكن طالما أهل “القضية” مايزالون فوق الأرض فإنها ستبقى بأفضل حال.
بوضعنا هذا ليس لنا سوى التضرع لتتحول تلك الغمامة السوداء لمطر جارف يسقي النفوس بالنخوة.. بالرجولة والكرامة الضائعة، لتعود مع كل قطرة مطر .. داريا.
عذراً التعليقات مغلقة