تحضرني صورة وحيدة لمي سكاف في ذكرى رحيلها، هي صورتها في المظاهرات والاعتصامات غاضبة حانقة تحمل علم الثورة بمواقف جدية ثابتة وإيمان بالثورة التي ستغير وجه سورية وتسقط الأسد، هكذا عرفت “مي” بعيدًا عن الشاشات والدراما وكل المشاهد التي تركت الأثر فينا، وهكذا كانت “مي” جنبًا إلى جنب مع الشعب تصرخ بصوت حر لثورتنا / ثورتها كما كانت تحب تسميتها “هي الثورة ثورتي حتى موت” لتعيش الإيمان بها والعمل لها وتموت عليه!
مي التي عاشت في حكم الأسد ورأت منذ صغرها الظلم والانتهاكات التي تمارس، اختارت مواجهة النظام، فمن لمس الظلم ورآه وعاشه، لا يرضاه لنفسه أو لأبنائه ويفكر بطرق تعيد للجيل القادم حريته، وتمكنه من حياة بعيدة عن الظلم أو الاعتداءات، لذا كانت واضحة في خياراتها وردودها، لا توارب ولا تجامل ولا تخاف، وبهذه الجرأة والقوة والحدة أتى ردها للمحقق عن سبب انتظامها بالثورة “لا أريد لابني أن يحكمه حافظ بشار الأسد” فالحكم المورث والظلم المورث لا ينتهي ما لم يقف في وجهه من ينهيه، واختارت “مي” أن تكون في صفّ من ينهيه لا في صفّ من يسكت عنه!
أفكر في حجم التضحيات التي قدمتها لتكون في صفوف الثورة منذ أيامها الأولى، فالمساومة على الحياة والعمل والفن دفعتها ثمنًا لموقفها، وكانت على يقين أن قائمة التضحيات لا تنتهي لكنها اختارت أن تكون حرّة، وحين تكون الحرية خيارك تدفع الثمن من دمك وأهلك وسكنك ووطنك وأمنك وأمانك وكل ما تملك، وهذا ما قدّمه الحراك الثوري على مدار سنوات، آلاف الشهداء، وملايين المهجرين، والأعداد التي لا تحصى من المغيبين قسرًا هي تضحيات حقيقية يقدمها الشعب في كل وقت وساعة، ثمنًا لخيار الحرية.
كان بإمكانها أن تكتفي بما قدمته في سبيل الحرية داخل سورية من خسارة لعملها وفنها واعتقال وتشويه سمعة وفصل من نقابة الفنانين وغيرها من الإجراءات التعسفية التي لم يتوان النظام عنها، وتخرج لتؤسس حياة هادئة بعيدًا عن صخب السياسة، لكنها آثرت أن تعيش بروح الثورة التي انتمت إليها وتتابع كل التطورات وتظهر على الشاشات معلقة ومنددة وتقدم على المسرح في برلين وباريس أعمالًا مسرحية معبرة عن آلام الشعب السوري في الداخل والخارج، ومحركها الدائم للعمل ما قالته في إحدى المقابلات التلفزيونية “بيسوى وأنت قاعد بأمان تفكر بالناس اللي تحت القصف” كأنها تذكر جميع الآمنين بواجبهم تجاه الشعب وسورية والثورة.
يصلني صوتها الذي لم يغب بآخر كلمات تركتها “لن نفقد الأمل.. إنها سورية العظيمة وليست سورية الأسد” كأنها أرادت أن تذكرنا دومًا بالبوصلة التي ستدلنا الطريق كلما حاولوا تضييع طرقنا وقتلها، كلما حاولوا خنق الثورة والعبث بها، وكلما تاهت وجهتنا، وفقدنا الطريق في زحمة الخيارات والمفاوضات والقتل والدم، لتكون بوصلة الأمل هي الطريق لسورية العظيمة الحرة التي كنا وما زلنا نسعى لها، فنحن كـ”مي” ككل الثوار الصادقين، ككل الشهداء.. مرضى بالأمل!
عذراً التعليقات مغلقة