بعد حادثة البوعزيزي في تونس، كثفت متابعتي للأخبار منتظراً أن يكون لنا حصة في الربيع العربي كحال الكثير من الناس. لكن ما إن انطلقت المظاهرات في سوريا، حتى أصبح التلفاز في بيتي إدماناً لا ينطفئ. كنا نقلب بين المحطات كالموسوسين، نبحث عن خبر هنا وخبر هناك، نراقب ما يحصل بفرح غامر. ثم تحول فرحنا رويداً رويداً لأمل مشوب بالقلق والترقب، كانت الشهور تمر والثوار متماسكون يتابعون مظاهراتهم السلمية بصبر وتفاني، ورغم المحاولات العديدة لعملاء النظام الذين اندسوا بقلب المظاهرات ليشوهوا وجه الثورة الجميل، إلا أن جميع المظاهرات التي شاركت فيها، لم تردد أي هتاف طائفي مما كان يدعيه النظام في إعلامه عن هتافات الثورة، أنها طائفية وتدعوا لإبادة الأقليات. حتى أن البعض كان يشارك المظاهرات مع عائلته، لأننا آمنا أن هذا حق لكل إنسان. وأن مظاهراتنا سلمية لا تقبل العنف. وكيف سنقبل بالعنف وأبناؤنا الصغار يصطفون معنا، يمدون أيديهم الصغيرة بالورود، ويحلمون بغد لا يشبه ماضينا. يحلمون بمستقبل يكون لهم ومنهم يبنوه بعزة وكرامة. بعيداً عن فساد نظام الأسد. وعن سطوة استغلاله لبلد غني، كان ليكون جنة الله على الأرض لولا لصوصية حكامه ومسؤوليه.
كنت قد داومت طوال العام على المشاركة في مظاهرات الجديدة. ورغم قسوة رجال الأمن والشبيحة، الذين كانوا يهاجمون المظاهرات بعنف وإساءات لفظية باللهجة الأمنية (العلوية). لم يصدر عن المتظاهرين أي هتاف طائفي أبداً. وكان بين المشاركين في المظاهرات شباب وشابات من مختلف المنابت. كانوا على دين الثورة فقط، أرادوا الحرية والدولة المدنية، وقاوموا كل المحاولات الدنيئة للنظام لبث الطائفية بين صفوف الثوار. ورفعوا في كل يوم شعار واحد. واحد. واحد. الشعب السوري واحد.
وفي ليلة مشؤومة، ليلة 25-5 -2012 وفي منتصف الليل تحديداً، كنت أراقب الأخبار كالمعتاد. عندما بدأت صور مجزرة الحولة تنتشر على صفحات الثوار وعلى المحطات الفضائية. صور أقل ما يقال عنها أنها رهيبة. جثث لأطفال تغطيهم الدماء ممددين هناك على الأرض، مستسلمين لسكاكين الذبح وللأيدي القاتلة، حملت عيونهم من الرعب ما استطاعت أن تحمل، وخبأت الباقي في أحلامهم. صرخات الناس كانت كرجع الصدى في أرض الرعب، بكاؤهم كان كانهيار أرض تحت وقع زلزال مدمر. الصدمة وعدم التصديق، هو ما يلمسه المرء في بحة الصوت، والألم تراه بالعين، وتشعر به يتغلغل في العظام. صور النساء المذبوحة والملقاة هناك، كأضحية قُدمت للجلاد. تقول لنا أن نبصق في وجه الكون كله. الصور المرعبة التي جاءتنا من الحولة كانت كارثية، صور تصمت معها الكلمات، وتختنق العبرات من قسوتها وفظاعتها صور تعلق في الذاكرة كغصة الهواء في الحلق..
هل تخيلتم مشاعر هؤلاء الأطفال والنساء قبل أن يذبحوا؟ هل تصورتم ما الذي كان يدور في بالهم وفكرهم؟ هل توقعوا قبلها بيوم، أو ساعات، أن تكون النهاية هكذا؟ ذهبت أحلامهم وآمالهم، كما ذهبت أرواحهم. أكد الناجون منهم، أن ما حصل كان صادماً، لم يتلقوا أي تحذير، غدر بهم نظام الوحش بكل خسة ونذالة، لم يعطهم الوقت حتى ليودعوا بعضهم، قصفهم وهم نيام، وفلت قطعان الضباع عليهم، تنهشهم ذبحاً وطعناً، وتفرغ عقد الإجرام القذر في جثثهم البريئة.
هل يمكن لكم أن تتخيلوا مشاعر طفل رأى أمه تقتل أمامه. أو مشاعر جدة عجوز وهي ترى عائلتها تفنى في لحظة. حصل هذا هناك، كل من نجا من المذبحة، نجا لأنه ادعى الموت، لم تتحرك الرأفة بقلب أحد، ولم تشعل الشفقة بصيص ضوء في عيون المجرمين، نزلوا المعركة بشجاعة عنترة، يهاجمون النساء والأطفال النيام، يثبتون بطولاتهم الخالدة على شعب ليس أعزل فقط بل نائم أيضاً.
كل هذا الحقد من النظام كان دافعه الانتقام. فمدينة الحولة كانت قد بدأت بالتظاهر في جمعة العزة بتاريخ 25.03.2011 لتصبح بعد ذلك مركزاً منظماً للمظاهرات السلمية التي أقضت مضجع النظام. وبحلول شهر أيار 2012 كان الجيش الحر قد سيطر على المنطقة فغدت المظاهرات أكثر تعداداً وتنظيماً مما زاد من حقد النظام على المنطقة ولأنه نظام خسيس اختار متعمداً أن يغافل الأطفال والنساء ليلاً لينتقم منهم ويعاقبهم جراء مطالبتهم بالحرية فهذه البلاد مزرعته ولا يحق للناس المطالبة بأي حقوق.
ما يزيد القهر أن بعثة الأمم المتحدة كانت هناك على بعد عدة كيلو مترات ومع ذلك حصلت المجزرة، حصلت بضوء أخضر من العالم كله.
كنا حتى ذلك الوقت نظن بأن الضمير العالمي لن يصمت على قتل المدنيين العزل. ولكن للأسف صمت العالم وماتت الإنسانية، وها هي صور الذبح الرخيص والموت المجاني تأجج في قلبي ناراً لا يمكن تحملها. خرجت من بيتي بعد منتصف الليل أهيم في شوارع جديدة عرطوز، كان كثر غيري قد خرجوا يطلبون حرية الصرخة..
ليلتها صرخنا وبكينا وهتفنا كانت الأصوات تصدر من قلوبنا وتخترق حناجرنا كسكاكين الموت التي جزت رقاب أطفال الحولة.
ومن وسط الجموع خرج الشاب الصغير يبكي ويلعن ويهدد بقتل الطائفة وإبادتها ما رآه أفقده العقل تماماً بدأ يصرخ بهذيان واضح لكن الحاضرين هدأوه برغم آلامهم القاسية ربت البعض على كتفيه قائلاً: نحن لسنا مثلهم لن نكون طائفيين لكن الشاب صرخ بحرقة: كل هؤلاء الأولاد ذبحوا بسكين الطائفة وأنتم تقولون الشعب السوري واحد
الشعب السوري ليس بواحد ليس بواحد.
غص الجميع بالدمع وجلس البعض على الأرض يبكي، لم نعلم يومها أن حينا الجميل سيعيش هذه اللحظات مجدداً بعد شهور قليلة، وسنجمع بأيدينا جثث من قضوا على أيدي جيش النظام وشبيحته .
لكنا عرفنا يومها أن معركتنا معركة طائفية بامتياز معركة طائفة الثورة ضد طائفة النظام. في اليوم التالي انتشرت المزيد من الصور وأفلام الفيديو، التي توثق بعضاً مما حصل، فما حصل كاملاً لن نعرفه ما لم يعد ضحايا تلك المذبحة للحياة ليرووه، وعندها فقط سيبصق العالم على وجهه الأحمق الذي سمح بمثل هذه المذبحة في القرن الواحد والعشرين، عصر (حقوق الإنسان).
Sorry Comments are closed