اللوحة: جابر العظمة
النص: عروة المقداد
أمسك يدها. دافئة كانت رغم انقباض جسده الهزيل ورعشة البرد التي سرت بأضلعه. لم يرغب أن تغادر. كانت تلك اللحظات القليلة كفيلة بأن يسترد كل تفاصيل طفولته. في ذلك الوقت البعيد عندما كان يتعلق بطرف ثوب أمه المطرز بالورود وهي تركض على الطريق الموصلة إلى حاكورة بيتهم. وذات مرة، عندما كان يلحق بها وقد تطايرت ضحكته كعصافير صغيرة تتقافز في الفضاء، داعبت أصابعه الوادعة وهمست له بثقة: ستكبر ذات يوم وتصبح رجل أفتخر بك أمام العالم كله.
ذات الدفء كان يشعر به طوال نزهاته المتكررة إلى الوادي المتربع على طرف القرية، عندما كانت تعلمه جدته اقتناص الصمت. وهناك، عندما كان يحلو له مراقبة شعرها المنسل من تحت العقصة السوداء، التفتت إليه ذات مرة وقالت: يا جدة كل صاوية بالسهل علامة موت أوعك تضيعها! يا جدة الرجال وقفات. لا تكون خوان، وان واجهت الموت خاف بس لا تهرب، أوعك تكون جبان! والمرأة أرض راعيها بتكشفلك مفاتنها وبتعمرلك دارك، والدار مش حيطان وشبابيك.. الدار سهول وديان وسما…
طوال تلك الأيام كان يفتقد ذلك الدفء الذي كانت تبعثه يدي أمه وجدته. وحدهما كانتا لديهما القدرة على بعث الدفء في جسده الراعش أبداً. وكثيراً ما كان يفتقد ذلك الدفء في ليالي الصقيع الباردة في غرفته المنسية على أطراف دمشق. لم يتبقى له أحداً غيرها. لقد أحبها وكان يريد أن تبقى بجانبه إلى الأبد لتطفئ الجليد الذي ينخر عظامه.
عندما عاد جثة هامدة إلى المنزل عقب ساعات من مغادرتها منزله كان يشعر بالبرد قد استوى على جميع أطرافه. انها علامات الموت! أدرك ذلك. أقسى ما في موته هي الساعات الطويلة التي أمضاها في الثلاجة الباردة في المشفى. كان الهواء المتجمد يتسلل إلى جسده من الفوهة التي تركتها رصاصة اخترقت رأسه. لقد بلغ الصقيع درجة تجمدت فيها كل كلمات الأغنية التي كان يرددها منذ اللحظة الأولى لموته… جنة جنة جنة … كان يشعر بتلك المتعة الغريبة كلما ردد كلمات هذه الأغنية، لكن الكلمات استحالت إلى قطع جليد سميكة في رأسه. لقد جمد عقله.. جمد الزمن .. جمدت الكلمات والذكريات والصور.. جمد كل شيء.
اخترقت جموع النساء المتشحات بالسواد. كانت غريبة وغير مألوفة لأحد. انحنت فوق جسده وتأملت عينيه الشاحبتين، ابتسمت لذلك الأرق الباد على وجهه. أمسكت يده وضمتها بكل أصابعها، حينها استعاد ذلك الدفء القديم. لقد شعر بحرارة جسدها تطرد كل الجليد المتحجر في أنحاء جسده. وفي تلك اللحظة التي كانت الدموع تنهمر من عينيها وتسقط على يديه كأنها إكسير للحياة، كان يبتسم دون أن يراه أحد. كان يبتسم لها فقط، وهو يردد أغنيته المفضلة .. جنة جنة جنة .. جنة يا وطنا ..
عذراً التعليقات مغلقة