الموت الجماعي المتنقل يصيب الفلسطيني أينما وجد. منذ النكبة عام 1948 ويتعرض الفلسطينيون لمجازر بين الفينة والأخرى. إحدى المذابح وقعت في لبنان 12 أغسطس/آب 1976. الحصيلة تشير إلى 4280 قتيلاً وألفي مفقود. إنها مذبحة تل الزعتر، والتي يعاد إنتاجها اليوم في مناطق كثيرة من الوطن العربي، لا سيما في حلب.
يقول المركز الفلسطيني للإعلام والتوثيق إن اليمين المسيحي، بدعم من الجيش السوري قصف المخيم بـ55 ألف قذيفة، وشنّ أكثر من 72 هجوماً ليسيطر عليه. المصادفة أن كيلومتراً مربعاً واحداً، هي مساحة المخيم، حوصر تماماً مدة 52 يوماً، وهو عدد أيام العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة.
كان المخيم يشكل حجر عثرة أمام أحزاب اليمين المسيحي، ويمنعها من التمدد نحو بيروت، باعتباره يحاذي العاصمة اللبنانية ويقع ضمن مناطق مسيحية. الجغرافيا تفرض نفسها على طبيعة المعركة. صمد الفلسطينيون ومعهم لبنانيون لكن الحصار أنهى الذخيرة والطعام، ليكون مساء ذاك اليوم بداية المجزرة بعد قصف مدفعي سوري عنيف. يقول ضابط سوري أنهى خدمته العسكرية وتجاوز الثمانين من عمره إن “(الرئيس السوري الراحل) حافظ الأسد شخصياً أعطى أوامر الحصار ودكّ المخيم بكل قوة حتى يستسلم”.
يرفض الضابط الكشف عن اسمه لـ”العربي الجديد”، بسبب لجوئه إلى لبنان، وخوفاً على بعض أولاده الموجودين في سورية، ويضيف أن “سياسة النظام السوري هي التجويع والحصار حتى يرفع خصمه الراية البيضاء، وإذا لم يرفعها يستمر في حصاره وقصفه”. يشبّه الضابط ما حصل في تل الزعتر قبل 40 عاماً بما يحاول النظام السوري فعله اليوم في مدينة حلب. ويشرح أن “في تل الزعتر ساعد الجيش السوري المليشيات الطائفية على ارتكاب المجزرة، والآن يستعين الأسد الابن بمليشيات طائفية لحصار حلب وارتكاب مجازر هناك”.
التاريخ يستحضر عند مرأى الدماء وفي اللحظات العصيبة، وخصوصاً إن اختزنت في ذاكرة الأطفال. يتذكر الناجي من المجزرة أحمد يونس، صبيحة ذاك اليوم. كان عمره حينها 12 عاماً، ويوضح لـ”العربي الجديد” أن الزمن توقف بالنسبة له في ذاك اليوم. يعترف أنه زار أكثر من طبيب نفسي وجمعيات كثيرة ساعدته للخروج من حالته النفسية، إلا أن صورة المرأة الحامل ذات البطن المبقورة (المفتوحة) لا يمكن محوها من ذاكرته. يضيف يونس، أن “هذه المرأة كانت خالتي، وأرسلتني أمي لمساعدتها، لكني وجدتها تغرق بدمائها، وجنين يظهر من أحشائها”. يعمل يونس حالياً سائق أجرة في مخيم البداوي للاجئين الفلسطينيين بعدما هُجّر من مخيم نهر البارد الذي دمّر عام 2007.
ويستذكر أيضاً الناجي من المجزرة، ياسر علي، قائلاً لـ”العربي الجديد”، إن “المجزرة ارتكبت في الليل، وتم اكتشافها صباحاً. وأن الجرافات أتت لتدمر ما تبقى من المخيم وتجرف معها الجثامين. لذلك بقيت رفات الضحايا تحت الركام في المخيم، ولم يُسمح باستعادتها”.
من جهته، يشرح الضابط السوري أن “النظام السوري يعتقد بوجوب تحويل أي بقعة تعانده إلى أرض محروقة. وبعد ذلك تأتي الجرافات لإزالة ومحو أدلة الجريمة كي لا يفكر أحد بمحاسبته دولياً، وهذا ما لم ينجح به في حلب حتى الآن، بسبب المقاومة هناك”.
ذاكرة مؤلمة تشاركها الصغار والكبار، النساء والرجال والشيوخ. حينها اتحد الألم ليصبح ألماً واحداً لذكريات متعددة عن قتل الأحبة، تقول أم سامر: “قبل هروبنا إلى الملجأ كنا محاصرين من دون ماء أو طعام، طلبت من ابني الأكبر (كان عمره 12 عاماً وقتها) أن يذهب إلى بئر الماء الوحيدة، خفت على بناتي من قصص الاغتصاب والخطف التي كنا نسمع عنها. لم أكن أظن وقتها أني أضحي بابني. وصلني من جاراتي أنهن شاهدن ابني مضرجاً بالدماء، فركضت مسرعة، وأنا في الطريق وجدت فتية يحملونه، لم أكن أصدق أنه ابني، لم أستطع تصديق ذلك”.
وتتابع وهي تمسك بطرف عباءتها محاولة كتم تلك الصرخة التي تسترجعها اليوم: “طلبت منهم أن ينزلوه، حملته بنفسي، كنت أتخيل أني سأحمله تسعة أشهر أخرى، ليعود إلى الحياة من جديد، كان خفيفاً جداً مثل نسمة رقيقة، حملته إلى أن وصلت إلى البيت، وطلبت من أخواته أن يدخلن إلى غرفة أخرى، تحدثت معه مطولاً، مرت الساعات والساعات، لم أشعر بالوقت… كنت فقط أتأمله، إلى أن بدأت بناتي بالصراخ، وبدأ الشباب ينادون للخروج إلى الملجأ، لأن القصف عاد مجدداً”.
وتستطرد قائلة “بعد سقوط المخيم، قال السياسيون اللبنانيون عفا الله عما مضى، وتوصلوا إلى قانون العفو نظراً لأن لبنان كان في مرحلة الحرب الأهلية، ولكن هناك أموراً لا أستطيع أن أعفو عنها، فقد رجعت بعد أن هدأ القصف إلى منزلي، وقمت بغسل جثمان ابني وتكفينه بنفسي، ودفنته وقتها في الخزانة، على أمل أن ينتهي الحصار، وأعود إلى دفنه بجنازة تليق به، إلا أني حرمت من ذلك، هدم المخيم، وهدمت أمنية جنازته”.
وبالنسبة للمفقودين، تقول أم جابر (65 عاماً)، لـ”العربي الجديد”، إنها تعرف أن أختها أخذت ابنها ذا الأعوام الأربعة، وذهبت به إلى ملجأ المخيم. تفرق شمل العائلة بسبب القصف ومقتل رب الأسرة. تتحدث أن الملجأ تحول إلى ركام، ومعه أجساد المختبئين فيه ويقدر عددهم بنحو ألفي شخص. أصبحوا مفقودين ولم يُسمح للصليب الأحمر الدولي بمعاينة المكان، بعدما تم جرف الملجأ ومعه آثار الجريمة.
وحول استعادة الجثامين يشير علي إلى أن “الملف بالنسبة للحكومة اللبنانية أغلق وصدر عفو عام عن كل مرتكبي جرائم خلال الحرب الأهلية”. لكن قصة مخيم تل الزعتر لا يزال يكتنفها الغموض والألغاز، ولا سيما في موضوع المفقودين. دُمّر المخيم، وأصبح في كل مخيم فلسطيني تقريباً حي اسمه تل الزعتر سكنه المهجرون، لكن حتى الآن لم يجب أحد من المسؤولين الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين أين اختفت الجثامين، ولماذا لا يسمح بفتح الملف؟.
*صمود غزال – العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة