دراسة: حكمة شافي الأسعد
بعد نحو عقدٍ من الزمن على صدور مجموعته الأولى (فليكنْ موتي سعيدًا) يصدر الشاعر فايز العبّاس مجموعته الثانية (5 ميغا بيكسل.. ذاكرة ممتلئة لِعَينَين). وليس هذا الامتداد الزمني هو الفارق الوحيد بين العملين، بل يمكننا القول إنّ هذا الامتداد الزمني، وما صاحبه من تغيّرات شخصية ومكانية واجتماعية وسياسية، جعل العمل الجديد مختلفًا تمامًا عن العمل الشعري الأول؛ كأنّ الشاعر ينقض العمل السابق ويقيم عليه بناءه الجديد الملائم لمنظر العصر وتوجّهه الفني.
وهذا التغيّر يبدأ مع العنوان؛ فبعد أن كانت المجموعة الأولى مقتصرةً على عنوانٍ رئيس، احتاج عنوان المجموعة الحديثة إلى عنوان فرعي “ذاكرة ممتلئة لعينين”. كما أنّ عنوان المجموعة الأولى يتّجه إلى المستقبل “فليكن موتي سعيدًا”، بينما يغايره العنوان الفرعي للمجموعة الثانية، إذ يعبّر عن “ذاكرة”.. عن زمنٍ ماضٍ. وقد كان العنوان السابق مستلًّا من أحد نصوص المجموعة، فهو جملةٌ عابرةٌ ليس لها تأثيرٌ في مساحةٍ واسعةٍ من المجموعة، على النقيض من العنوان الجديد الذي يعبّر عن عموم المجموعة.
ثم يواجهنا اختلافٌ آخر مباشر بعد العنوان، وهو تغيّر المُخاطَب بـ (الإهداء)؛ ففي حين كان إهداء “فليكن موتي سعيدًا” متوجِّهًا إلى الراحلين، أوحى الشاعرُ في الإهداء الجديد أنه هو الراحل، وأخذ إهداؤه نبرةَ المودِّع؛ وقد يتلاءم هذا مع التغيّر المكاني للشاعر والانتقال إلى علاقاتٍ بشريةٍ مختلفة.
وقد كان التطور الشكلي أهم ما حدث بين المجموعتين، خصوصًا فيما يتعلق بالشكل الإيقاعي؛ فالمجموعة الأولى كانت مخلصةً للوزن الشعري بشكل كامل، أما هذه المجموعة الجديدة فقد أخلصت للنثر بشكلٍ كامل. وهذه ظاهرة تستحق الدراسة عند عددٍ كبيرٍ من شعراء هذه المرحلة؛ إذ ما هي الأسباب المقنِعة التي تجعل الشاعرَ المعاصر يقوم أحيانًا بقطيعةٍ مفاجئةٍ وشبه كاملةٍ مع تراثه الشخصي، متبنّيًا حامِلًا شكليًّا آخر يعبّر عن وجهته الفنية والمعنوية الجديدة؟ وما الذي وجده الشاعرُ في الشكل الجديد من قدراتٍ وطاقاتٍ رأى أنّ الوزن الشعري عاجزٌ عن تحمّلها أو الإتيان بها؟ أعتقد أن الإجابة عن هذه الأسئلة، وعن غيرها من الأسئلة التي تفرضها انقلابات الشعراء وتقلّباتهم، ستكون ذات قيمة في تقييم الشعر ونقده في هذه المرحلة.
من حيث بنية النصوص انتقل فايز العبّاس من النمط المتماسك المترابط شكليًّا إلى المقاطع السريعة التي تربطها الوحدة الموضوعية، وقد تربطها الخاتمة المُحكَمة المفاجئة الحاوية للنص كله؛ كما أنه اعتمد كثيرًا على البناء على جملةٍ واحدة مكرّرة في بداية كل مقطع لتكون نقطة انطلاق جديدة في الموضوع، من مثل:
حين تنظر من السماء
ترى القرى عناكبَ.
*
حين تنظر من السماء
ترى أرض الله واسعةً
فتهذي: لماذا تضيق علينا إذن؟
*
حين تنظر من السماء
ترى النجوم وهي تصعد واحدةً واحدة
واثنتين اثنتين
وأكثر أكثر
فتصرخ بها: خذي يا سماء حصّتَكِ منّا.
*
حين تنظر من السماء…
وهكذا.. وهو أسلوبٌ شاع كثيرًا في الكتابة الشعرية المعاصرة، وإن كان له جذور في الأنماط السابقة، وأخشى أنه بدأ يُستهلك وينحو نحو الرتابة ويصبح بنيةً مُستسهَلة.
لكن لا بد من الانتباه إلى أنّ تغيّر البنية والشكل عند فايز العباس جعل نصوصه أقل ترهّلًا ممّا كانت عليه في مجموعته السابقة، وجعل أسلوبه الفني أكثر عفويةً وخيالًا وأقرب للمعاصرة وأكثر حركيةً ومشهديةً، وأعطاه أريحيةً في تناول مواضيعه.
لم يكن هذا التحوّل بين زمني الشاعر اعتباطيًّا، بل هو تحوّلٌ منضبطٌ وواعٍ، ناتجٌ عن نضجٍ فنّي وتغيّرات فكرية وواقعية، كما أحسب.
وقد عبّر الشاعر عن تنقّله بين الزمنين من خلال نصه “نسختان”، الذي جاء فيه:
كنّا أربعين شبيهًا،
أعرف منهم اثنين؛ أنا وأنا الذي هنا
أنا الذي أضاع كلَّ شيءٍ وطفق يبحث عني،
وأنا الآخر الذي قطع الحدودَ، وبعدها لا خبر جاءني عنه.
فالشاعر يعي أنه الآن نسختان بين زمنين، ومضمون النسخة الأولى يختلف عن مضمون النسخة الأخيرة؛ وهذا ما جعل المجموعة الشعرية الجديدة تختلف جذريًّا عن التجربة الأولى البعيدة لفايز العباس.
الشاعر فايز العباس في سطور:
فايز العباس شاعر سوري من مواليد بلدة اليعربيّة / مدينةَ القامشلي في العام 1976.
تخرّج من جامعة حلب مجازاً في اللغة العربية وآدابها، ثم عمل في التدريس في مدارس سورية.
فاز في كثيرٍ من الجوائز المحليّة والعربيّة، ومنها جائزة الشارقة للإبداع العربي دورة العام 2011 عن مجموعته الشعرية “فليكن موتي سعيداً”.
Sorry Comments are closed