كيف بات الإعلام أداة تفسخ النسيج الاجتماعي السوري؟

هدى أبو نبوت27 أكتوبر 2019آخر تحديث :
كيف بات الإعلام أداة تفسخ النسيج الاجتماعي السوري؟

تعرف الصحافة بأنها السلطة الرابعة أي أنها السلطة التي تراقب وتحاسب السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) في أي دولة تتمتع بفصل كامل للسلطات وسيادة القانون، ولكن عندما يسألني أحد عن عملي لا أجد جوابا أكثر مقاربة لواقعنا للمهنة التي درستها لثقتي التامة بأهميتها وضرورتها في التغيير من (مهنة المتاعب) لما يعانيه الصحفي المستقل في عمله عموما وفي دول العالم الثالث وسوريا على وجه الخصوص، من صعوبات إضافية تحد من تأثيرها، تحاربها الأنظمة الاستبدادية في محاولة للسيطرة على عملها وأدلجتها من جهة، وقيود المجتمع وعاداته بانعدام قدرته على تقبل النقد البناء من جهة أخرى.

ولكن إذا تجاوزنا الأخطار الهائلة التي يمكن أن يتعرض لها الصحفي خلال أدائه لعمله إن كان مستقلا ويبحث عن الحقيقة، في دولة مثل سوريا، من الاعتقال في سجون الأسد (قبل الثورة وبعدها)، إلى الفصائل المتعددة المنتشرة خلال سنوات الثورة والحرب، سينتهي الصحفي المستقل إلى مستقبل أفضل ما يقال عنه أنه عاطل عن العمل، ويخبو تأثيره بالتدريج ، وبالعمل منفردا يبقى يغني بوادٍ لا يسمع فيه غير صدى صوته وبأفضل الأحوال أصوات من يشاركونه بعض آرائه ومنهجه للتغيير.

وظيفة الإعلام الرئيسية أن يكون سلطة رابعة حقيقية، وليس مجرد كلام مرصوف يروج لجهة أو داعمة لأخرى، كما حدث ويحدث في سوريا منذ ٢٠١١ حتى الآن؛ مروج للكره ومحرك للطائفية أو مستغلا الظروف الاستثنائية لتحصيل مناصب ومميزات شخصية للصحافي ضاربا بعرض الحائط المصلحة العامة والتأثير السلبي لقلمه في قلب الحقائق وزرع بذور الكره بين فئات المجتمع المختلفة مما يمهد لواقع أكثر عنفا وانغلاقا على أسس ( دينية، طائفية، قومية).

ومن هنا في هذا الواقع المشحون عاطفيا عبر وسائل إعلام ذات أجندات مختلفة ومصالح مشبوهة وتملك كل وسائل التأثير ، يصبح الصحفي المستقل هدفا بحد ذاته، تحاربه كل الجهات بشكل علني أو خفي، فلا يجد عملا ولا جهة محايدة تريد الاستفادة من تجاربه لأن المشهد تحول لسوق كبير لا يربح فيه سوى البائعون بغض النظر إن كان الخبر المنقول صحيحا أم لا، أو الراي يصب في المصلحة العامة أو الخاصة، لأن الهدف الكبير لأغلب وسائل الإعلام الحالية أن تحجز مكانا في الترويج وتستقطب العدد الأكبر من الجمهور لتحقيق أجندتها الخاصة دون أن تأبه للحقيقة ،ضاربة بعرض الحائط أساسيات المهنة في الحيادية والموضوعية.

دائما ما يقع الصحفي المستقل في مشكلة أخلاقية تجعله يقع بين نارين، الأولى توافق مبادئه الشخصية وقناعاته مع المهنة المتاحة له والأخرى في عواقب الرفض فيتحول لعاطل عن العمل في سوق عمل صعب وأعباء حياة لا تنتهي والتي تزداد مشقة وإرهاقا يوما بعد يوم، لذلك يضطر بعض الصحفيين لاختيار الوقوف في الوسط وتعليل النفس بأن إظهار جزء من الحقيقة كافٍ لترويض منغصات الضمير وترويض العقل عندما يبدأ بالتشكيك.

ولكن كوني صحفية سورية و من تجربتي الشخصية بالتغطية الإعلامية التي رافقت الثورة ولاحقا الحرب، كانت النتيجة أن نصف الحقيقة هي أحد أسباب الكارثة الكبيرة التي تشارك فيها النظام والمعارضة المسلحة والإعلام المتعدد الدعم، وبالمقابل فكل صحفي أو ناشط اعلامي رفض لعبة الداعم السياسي، وحارب حتى النهاية من أجل الحقيقة والحقيقة كاملة مات تحت التعذيب في سجون النظام أو المعارضة المسلحة أو اغتيل على اتساع الأرض السورية تحت كل الرايات ومختلف التوجهات.

إن تأثير نقل نصف الحقيقة أخطر بكثير من نقل الأخبار الزائفة لأن الأخبار الزائفة تتبخر بسرعة وما يلبث المتابع لوسائل التواصل الحالية من فيس بوك وتويتر أن ينفي أو يؤكد ما يحدث بسرعة البرق، ولكن نصف الحقيقة تجد من يروج لها ويدافع عنها، كل جهة حسب مصالحها وما تريد أن تحقق من غاية في التركيز على هذا الجزء، ولكن السؤال: ما الضرر من إغفال الجانب الآخر؟ لم لا تنقل الحقيقة كاملة؟ لأن الحقيقة تتحدى عقل الجمهور وتترك له مساحة كاملة لممارسة حرية التفكير والاستنتاج ومن ثم يملك قوة التغيير، ويساهم عبر الصحافة في تحقيق العدالة المنشودة ومن هنا نعرف تماما لماذا يجب أن تكون الصحافة حيادية وموضوعية.

يجب على الصحفي أن يكون مستقلا برأيه فهو حر وبالتالي كل المتابعين له أحرار بتقبل الفكرة أو رفضها، والنتيجة يوما بعد يوم ستصب في بحر كبير من الحرية والوضوح وتبادل المعلومات ومراقبتها الذاتية ويتحول الإنسان لقوة فاعلة تتأثر ومن ثم تكون قوة ضغط تصب في الصالح العام.

ولكن الحقيقة المنقوصة تتحول لسلاح خراب حقيقي في الحروب ولاعب استراتيجي يغير القواعد ويرسم المستقبل ويتلاعب بالواقع، ويكون أكثر خطرا من السلاح التقليدي وأكثر هيمنة من الأنظمة، ذلك أنه في زمن الحرب تختفي سلطة القانون ويتبخر الاستقرار، ويصبح المجتمع قابلا للاهتزاز العاطفي أمام أي حدث وقابلا لتعميم أي حادثة فردية وتهويلها ومن ثم يبدأ الاصطفاف لمواجهة هذه التحديات مما يقسم المجتمع إلى جماعات تواجه كل منها الأخرى كأعداء، وفي الحالة السورية الراهنة وتبعثر المجتمع السوري تبعا للأديان والطوائف والقوميات تحولت القضية (حياة أو موت) فيتنحى العقل القادر على التمييز والتفكر بما يتلقى من أخبار ومعلومات ويقرأ من آراء وتحليلات ، وتتقدم غريزة البقاء لتستمع للجزء الذي يدعم جماعتها ويحافظ على وجودها.

المشهد السوري الحالي دليل واضح للسياسة الإعلامية التحريضية وعندما يحسب لسوريا أنها بلد متنوع عرقيا وطائفيا ودينيا كقوة مضافة لأي مجتمع حي، فهي ذاتها النقطة الضعيفة في الخاصرة أثناء الحرب، وعندما يدخل الإعلام كطرف بين هذه المكونات يرسل إشارات طائفية مغلفة بالحقيقة المنقوصة، يصبح المجتمع كقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة تستشعر فيها المجموعة أنها مهددة ، فيكون رد الفعل عنيفا بالضرورة لأنها تحولت إلى قضية وجودية وبعيدة تماما عن السبب الحقيقي الذي خرجت لأجله جماهير واسعة من الشعب السوري بالثورة السلمية من أجل التغيير السياسي والمطالب المحقة والعدالة الاجتماعية.

يمكننا ملاحظة الدور الخطير الذي لعبه الإعلام منذ البداية حيث انتهج إعلام النظام منذ اليوم الأول للثورة تحريضا واضحا على الجماهير الغفيرة التي اكتسحت الشوارع والساحات السورية بمظاهرات سلمية تطالب بالتغيير، وشن حربا اعلامية كاملة واصفا إياهم بالإرهابيين مما أعطى مبررا كاملا لجميع الموالين للنظام بالصمت على أقل تقدير أمام المجازر المرتكبة.

وما زالت الحادثة الشهيرة حاضرة في الأذهان عندما قامت المراسلة الحربية في قناة الدنيا الموالية للنظام ميشلين عازار والمرافقة للجيش السوري في وقت مبكر من الثورة عام ٢٠١٢ عند اجتياح الجيش مدينة داريا بعد قصف شديد شاهده وسمع صوته جميع سكان مدينة دمشق على حد سواء، ورغم ذلك لم يرَ الكثير من موالي النظام أي وحشية أو غير مهنية في تصرف ميشلين عازار عندما استجوبت الطفلة المصدومة الجالسة بجانب جثة والدتها لتؤكد رواية النظام عن الأحداث، لأن النظام استطاع استعمال الإعلام كسلاح أساسي منذ البداية، فنلاحظ دائما أنه دأب على وجود مراسلين حربيين في جميع المناطق يواكبون عمليات الجيش ويدخل مراسلو التلفزيون ويؤكدون الأخبار بالصوت والصورة فيكتفي المتلقي بنصف الحقيقة المقدمة له ولا يبحث ولا يهمه الجزء الآخر (المهم هنا رؤيتهم الجيش يقضي على الإرهابين المسلحين وشهادة بعض أهالي المناطق بسعادتهم الغامرة من عودة الأمن والأمان وإرسال تحية للجيش ولقائد الوطن ).

وأصبح الجمهور مؤدلجا لاستقبال هذه الصور الناقصة المتلائمة مع أفكاره وترضي مخاوفه التي أثارها الإعلام سابقا بأن ما حدث مؤامرة على سوريا وهناك عصابات وبعض الخونة الذين باعوا الوطن بسندويشة فلافل، ونجح الإعلام بدرجة امتياز في إقناع جماهير الموالين أن أي شخص ينادي بالحرية ويرفض الاستبداد والظلم هو مشارك بالتخريب ومسؤول عما حل بالبلاد من دمار حتى تحولت عبارة (كنا عايشين) دلالة على ولاء مطلق للنظام في حربهم مع الفئة التي حرمتهم تلك الحياة التي كانوا يرون فيها الاستقرار والأمان، فلم يعد هناك سبب للتعاطف من وجهة نظرهم مع المعارضين ولا أهمية لمعرفة تفاصيل أكثر عن رؤية الثائرين للتغيير، ولا مبرر لتفهم الجزء المخفي من الحقيقة الذي بات إظهاره تحصيل حاصل.

ولم يكن إعلام المعارضة ولا سيما الحربي منه التابع لفصائل عسكرية تقاتل قوات الأسد أحسن حالا، بل من الملفت للنظر أن المنهجية كانت واحدة، وتم وصف جميع المناطق التي يعيش فيها السوريين خارج سيطرة مناطق المعارضة بأوصاف طائفية ( علوية نصيرية إشارة للأسد) مما عرض المدنيين في مناطق النظام خلال المعارك للاعتداء والتنكيل بهم بدافع الانتقام ، وأحداث عدرا العمالية في أواخر ٢٠١٣ أثبتت أن طريقة التغطية الإعلامية كانت متقاربة حيث أغفل أن اعتقال مدنيين نساء وأطفال وشيوخ هو جريمة حرب ، بل على العكس كان هناك دعم إيجابي لفكرة استخدامهم كورقة ضغط على النظام في عمليات تفاوض يجهل الجميع تفاصيلها والجهة التي تصب في مصلحتها حيث ما زال عشرات الآلاف من المعتقلين في السجون، ومن ثم كان دور الإعلام المعارض غير نزيه وأحيانا داعما لقرار جيش الإسلام (الجهة العسكرية المسيطرة على الغوطة قبل تسليمها) في وضع النساء والأطفال من معتقلي عدرا العمالية في أقفاص على أسطح المنازل كدروع بشرية لإجبار النظام على وقف القصف الشديد على مدينة دوما، وعندما كان متوقعا أن يكون هذا التصرف صادم لأنه منافي للأخلاق وكل الأعراف على الأقل للفئة المعارضة والمطالبة بالحرية والكرامة للجميع والتي ذاقت بسبب مواقفها الظلم والتنكيل على شكل عقوبة جماعية، للأسف لم يختلف رد الفعل ولم نجد مكانا للتعاطف أيضا في قلوبهم، فهو نوع من العدالة الغائبة بنظرهم وبما أن سكان عدرا العمالية (علويون) فهم يستحقون ما يحدث لهم وإن كانوا مدنيين ولم يشاركوا النظام في معركته ضدهم.

ولم يتوقف دور الإعلام سياسيا عند الموالاة والمعارضة بل تطور إلى اللعب على الوتر القومي والمناطقي فشنت حرب اعلامية بين العرب والأكراد ولعب الأطراف الثلاثة النظام والعرب من المعارضة والأكراد من الموالاة والمعارضة أدوارا تحريضية في زيادة احتقان المكونين ضد بعضهما، مما حول الصراع من قضية سياسية واسعة تهدف إلى العدالة والمواطنة للجميع الى قضايا عقيمة وضيقة تنحصر فيمن يسيطر على أكبر منطقة جغرافية ومن يرفع الراية ومن يدير المناطق، وتطور لاحقا عند الأكراد باستغلال الظروف الراهنة للظفر بإدارة ذاتية لمناطقهم عارضها العرب، فلجأ الأكراد للحماية الأمريكية ولجأ العرب للحماية التركية، وكلا البلدين لديهم مصالح كبيرة ومهمة في سوريا، ولكن الطرفين السوريين علقا في المستنقع الاعلامي والتهم والتحريض مما انعكس على الأرض بعدم تقبل بعضهما تحت حكم واحد، بل تطور بإغفال الإعلام عند الجانبين للكثير من الانتهاكات الحاصلة بحق الطرف الآخر، في عفرين التي يديرها عرب بتبعية تركية أو في الشمال الشرقي (الرقة وديرالزور) التي يديرها أكراد بتبعية أمريكية، وأضاعوا جوهر قضية الثورة السورية ونسي كل طرف شعار الثورة الأول (واحد واحد واحد الشعب السوري واحد).. وكان لافتا تناول وسائل الإعلام للعملية التركية الأخيرة التي سميت ” نبع السلام” في عناوين الأخبار التي تتبع لكل جهة سياسية لها مصالح مباشرة أو غير مباشرة في سوريا، ولم يكترث أحد بمئات الآلاف من العرب والأكراد وباقي المكونات السورية التي تعيش في بقعة جغرافية واحدة، وانتشرت مقاطع الفيديو والصور لانتهاكات الطرفين من أجل حصد نقاط تفاوضية لا أكثر من أجل الخروج بربح مؤقت لأحد اطراف النزاع البعيد كل البعد عن هموم الشارع السوري، الذي يعيش كارثة إنسانية مروعة بحاجة إلى حل جذري.

في غياب القانون والعدالة نصب الإعلام في يد كل طرف المحكمة والقاضي في كثير من القضايا التي ترتقي أغلبها لتصنف جرائم حرب، ومهمة الإعلام تنحصر في توثيق هذه الانتهاكات وتسليط الضوء عليها دون إغفال أي طرف بحيادية تامة على عكس النماذج السابقة التي واكبتها وسائل الإعلام السوري على اختلاف أجندتها وأهدافها في الحرب التي ما زالت مستمرة حتى الآن .

إن نصف الحقيقة ساهم بشكل كبير في تفسخ النسيج السوري وما زال يساهم في رسم مستقبل غامض له لا ناقة للشعب فيه ولا جمل ولا يصب في الغاية الحقيقية التي انتفض من أن أجلها الشعب في وجه الاستبداد الأسدي، فتحول المجتمع السوري لمتفرج لا أكثر ولا أقل ومن ضمنهم الصحفيون السوريون المستقلون بعد أن سحب البساط من تحت أقدام مهنتهم ذات السلطة الرابعة، وسلمت إلى أقلام مأجورة تكتب لمن يدفع أكثر، ولم يعد يملك الصحفي المستقل الباحث عن الحقيقة كاملة سوى صفحات الفيس بوك الزرقاء ليبعثر كلماته التي لا تلقى آذانا صاغية لأن الحقيقة بعد كل ما حدث باتت صادمة وغير مقبولة ومكلفة وتحتاج لإعادة ترتيب الأوراق والقناعات التي تولدت خلال السنوات الماضية بجهد الماكينات الاعلامية الموجهة ذات الأجندة، ولم يعد قلم الصحفي ذو ثقة ولم يعد هناك فائدة بالتغيير دون دعم مؤسسي كبير أو عمل جماعي صعب التحقيق في الظروف السورية الراهنة.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل