منذ الأول من آب عام 1946، تاريخ تأسيس الجيش العربي السوري واستلام الحكومة للقوات المسلحة السورية من سلطات الاحتلال الفرنسي، بدأت رحلة المواطن السوري في الدفع من ماله ودمه في سبيل تقوية هذا الجيش والاضطلاع بالمهمات الملقاة على عاتقه في حماية البلاد ونصرة الأشقاء وتحرير الأراضي المحتلة. لكن هذا المواطن المسكون بالكرامة والوطنية لم يكن يدري أن هذا الجيش الذي ظل يقتطع من قُوتِه ومن دمه، للبناء والتحرير، أنه سيخوض أشرس حروبه ضد أبناء بلده؛ كمن يربي “أسداً” ليأكله يوماً ما. وظل السوريون عموماً -باستثناء النخبة المتحكمة بمفاصل الدولة والممسكة بزمام الأمور – يعيشون حياة من التقشف فرضت عليهم كأسلوب حياة، بدعوى صرف معظم ميزانية البلاد على الجيش، وتحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني، ودعم جبهة الصمود والتصدي. واستمر الشعب على مدى عقود طويلة يلوك تلك المفردات، تطرق مسامعه حيثما ولى وجهه، سواء نحو التلفاز، أو في نشرات الإذعان السياسية في الاجتماعات، وفي المؤتمرات والمسيرات.
وإذا ما تجاوزنا حقبة الانقلابات والاضطرابات السياسية التي سادت المشهد السوري لفترة، ودور الجيش خلال تلك الأحداث، لنصل إلى أول استحقاق كشف المهمة الحقيقية للجيش والمتمثلة بقمع الشعب كأولوية، وذلك خلال مذابح حماة في بدايات عام 1982. حيث استباح سلاح الجيش – لا سيما سرايا الدفاع – الدم السوري مرتكباً أفظع المجازر. ثم تمر ثلاثة عقود تقريباً، لتكشف الثورة السورية عام 2011 حقيقة ما أعد له هذا الجيش، وذلك حين شهر سلاحه بوجه الشعب الذي ما فتئ يرطب لسانه ويتغنى بنشيد “حماة الديار”. فخيرات البلد ومقدراته تم توظيفها لقتل السوريين، من أموالهم وعلى يد أبنائهم! فتبدأ الدورة من جمع المال من الشعب بالضرائب وغيرها ومن موارد البلد ليُستجلب به السلاح أساساً من روسيا ومن دول أخرى لكي يستخدم ضد الشعب ويتمَّ دورته الدموية. لقد ساهمت روسيا وإيران بشكل أساسي، من خلال ضخ السلاح والمال للنظام، ناهيك عن المرتزقة، في إبادة السوريين وتهجيرهم، وعلى حسابهم وحساب السيادة ورهن البلاد للقوى الخارجية الغاصبة.
وفي الجانب الآخر من المشهد، دعمت بعض الدول أطراف المعارضة على اختلاف أطيافها بالمال والسلاح لارتهانها وفي سبيل خدمة أجنداتها، وغدت الساحة السورية ميداناً لتصفية الحسابات إقليمياً ودولياً، لم تكن نكهة الحرب الباردة بين الشرق والغرب غائبة عنها؛ ليتبين بعد هذه السنين الدامية زيف وخبث هذا الدعم، إلا ما رحم ربي. هذا المال والسلاح الذي جرى ضخه في الداخل السوري شكل وقوداً سُعّرت به المحرقة السورية وساهم في استمرارها؛ فكانت غايته شراء الولاءات وتوجيه البندقية حسب الطلب، والفتك بالمعارضين لهم، سواء من النظام – وهم من أبناء سورية – أو من جماعات المعارضة الأخرى؛ فكانت الرحى تدور وتطحن أبناء البلد ومكوناته في نمط حروب تكاد تكون تكلفتها صفرية للقوى الكبرى.
ومما يلاحظ في سياق هذه الدورة الدموية الدعم الأمريكي للميليشيات الكردية عسكرياً ومادياً ولوجستياً. لقد استغلت هذه الميليشيات هذه المساندة الأمريكية في قتالها ضد فصائل المعارضة، وفي قتال تنظيم الدولة الإسلامية. هذا في الوقت الذي وجه فيه التنظيم سلاحه نحو المعارضة أساساً، وقلما تم تصويبه نحو النظام. لقد تم تسهيل سيطرة التنظيم على أسلحة وأموال طائلة في سورية والعراق ليكبر هذا الكيان كما أُريد وخطط له؛ وكان من أبرز سماته استهانته بدماء الناس واستحلالها. وفوق كل هذا وذاك، يتلقى هذا البلد المكلوم طعنات مؤلمة بين الحين والآخر من الكيان الإسرائيلي، يعمق جراحاته، ويفاقم خسارته البشرية والمادية. فأمريكا تقصف شرق سوريا، وروسيا تقصف غربها، ثم تأتي إسرائيل لتضع اللمسات الأخيرة على مشهد الدمار. لقد جربت هذه القوى شتى أنواع الأسلحة وأعتاها، بما فيها الأسلحة النووية والفوسفور الأبيض، وأضحت سورية ميدان تدريب لرفع كفاءة تلك الجيوش وتطويرها، في أبشع صور الوحشية وانعدام الإنسانية. إن هذا ما يراد لهذا البلد الذي تعاقبت عليه الحضارات منذ بدايات البشرية، القضاء على الإرث الإنساني والتاريخي والحضاري الذي تراكم عبر آلاف السنين، وهو خيار تضافرت على إنجازه وتوافقت عليه قوى الشر الغاشمة من مشارق الأرض ومغاربها.
والسؤال الذي يطرح نفسه: أية دماء تجري في عروق أولئك الذين يسفكون الدم السوري ويتاجرون به ويتخذونه فزاعة يخيفون بها كل الشعوب التواقة للحرية والكرامة؟
Sorry Comments are closed