قراءة: ياسمين نايف مرعي
إذا كنت تبحث عن الفانتازيا في رواية تقرؤها في عطلة نهاية الأسبوع، فهذا الكتاب ليس خياراً جيداً، لكنك إذا كنت ثائراً وصاحب قضية، وتبحث عن مقومات لبناء ذاكرة عن الظلم في سوريا، وعن الأسئلة الكامنة خلف ضرورة مواجهة النظام الحاكم فيها ومحاكمته، فلا تفوتك قراءة “نساء في تابوت الشهوة” للسورية ندى حاكمي.
في مائة وسبع وستين صفحة من القطع المتوسط، صدرت الرواية هذا العام عن دار يافا العلمية للنشر والتوزيع في الأردن. وزعت فيها “حاكمي” حكايتها عن تجربة اعتقالها على تسعة فصول هي في الحقيقة المراحل الزمنية/ المكانية لتلك التجربة: (الرحلة، فرع الأمن السياسي، فرع المخابرات العسكرية، الشرطة العسكرية، فرع فلسطين، الحكم، مخفر كفرسوسة، سجن عدرا ثم الفصل الأخير الذي يحمل عنوان: الخذلان).
لقد سبق “حاكمي” إلى مؤلفات في أدب السجون العربي كل من الأردني أيمن المعتوم، السوري مصطفى خليفة، السورية هبة الدباغ، والمغربي أحمد المرزوقي، في توثيق كل منهم لتجربة اعتقاله، كما كتب صنع الله إبراهيم، عبد الرحمن منيف والطاهر بن جلون عن السجون في مصر والمغرب ودول شرق المتوسط، لكن ما أسميه شهادة ندى حاكمي عن اعتقالها من قبل أمن النظام السوري يختلف ليس في أن امرأة جميلة وأكاديمية تسجن فتكتب عن فترة سجنها، بل لأنها تفاجئ القارئ بالصدق الذي تسرد فيه قصتها، وبإسقاط مسار الثورة/ حياة الثائر السوري على نص فيه من الحساسية وعدم المواربة ما فيه.
الموضوعان الأساسيان اللذان تعكسهما الشهادة هما “الخوف” و”التعذيب” مما تواجهه النساء خاصة داخل معتقلات النظام السوري، في سردية عن اليوم داخل السجن، كيف يبدأ وهل ينتهي؟
تضعنا حاكمي في فضاء يومها الضيق، تسرد التفاصيل بإسهاب، تسردها بوضوح ودون انقطاعات في التسلسل أو ضبابية في تصوير أي موقف ودون حرج أو تردد من ذكر أقسى المواقف وأشدها ألماً.
“…. تخشبت قدماها حين سمعت باسمها، فإذا بأقدامه تدوس فوق أجسادنا ليصل إليها ويجرها من حيث تقع يده، أما اليد الأخرى فهي مشغولة بالعصا التي لا تميز بين رأس وآخر أو كتف وآخر، أتذكر في هذه اللحظة ما قالته لي أم يوسف بأن الضعيف يموت هنا. هل حقاً هو مكان للأقوياء؟ كيف يموت الرجال إذن؟”
تروي ندى حكايتها وحكايات رفيقاتها، تعكس لنا توحدهن في الألم وفي الخوف، لكن ليس بالمصير، تقول إذ يهمون بنقلها من فرع إلى فرع في حمص: “نسيت جميع أرقام الهواتف التي اجتهدت في حفظها… لن أستطيع أن أطمئن عائلات الفتيات… هل تكفي الأهالي كلمة «هن بخير»!! لو كنت فعلتها لكنت كذبت كثيراً، هن لسن بخير…”
وترسم تعلقها ورفيقات سجنها بأي خبر عن الحياة في الخارج، الحياة التي لم يتبق لهن منها إلا ما يسعفهن القدر به، وما تتركه لهن وحشية السجانين منها.. “لا زال في الخارج حياة وهواء وعطور، ملابس تفوح منها روائح مساحيق الغسيل، وجوه نظيفة لم تلوثها مياه المراحيض، شعر مسرح لا قمل فيه ولا صئبان، نتدافع لسؤلهن (المعتقلات الجديدات) عن أخبار الثورة، عن الطقس، عن آخر إصدارات المسلسلات والأغاني، عن كل ما يتعلق بالحياة”.
تتحدث كذلك عن آمالهن داخل السجن، المسنودة حتى على احتمالية رأفة جلاد سوريا الأكبر: “تمر الأيام والليالي بين تحقيقات وعذابات وبرد وقهر لكل من في هذه الغرفة المظلمة، أعدادنا تترواح بين زيادة ونقصان، تفاءلنا جميعاً باقتراب يوم «عيد الأم» بعد تردد أخبار عن عفو عام سيعلن عنه الرئيس بهذه المناسبة، توالدت الأحلام والآمال، بدأ دفء المنازل يتسرب إلى أجسادنا، الأمهات صرن يسمعن أصوات أولادهن قادمة من فوق الأرض، وكل عاشقة وضعت للقاء حبيبها عشرات السيناريوهات، عادت أجسادنا تضج بالحياة، ولكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح، لم يشمل العفو أياً منا، فاستكنا وعدنا إلي بردنا وبرودنا”.
تمر ندى حاكمي في شهادتها على حقيقة الخيانات والاختراقات بين النشطاء ممن غادروا سوريا، الاختراقات داخل السجن، تغلغل النظام بين رفاق الثورة ورمي الفتنة بينهم، وحشيته في كل فرصة سنحت له لاعتقال عائلة بأكملها، أو اعتقال جزء من العائلة للضغط على البقية، طائفيته العلنية في التعاطي مع المعتقلات القادمات من مناطق سنية، سخريته من تدينهن، تقوية معتقلة على أخرى، والإيغال في إذلالهن جميعاً.
تتحدث كذلك عن الخوف الذي لا يقل مهما تكرر، ولا يمكن التعود عليه أو التخلص منه، تتحدث عن الحب وأثره على السجينات بين خوفهن من فقده لمجرد أنهن اعتقلن، أو لجوئهن إلى خيالاتهن عن أحبتهن لنيسان فظاعة السجن ومحاولاتهن التنصل ولو للحظات من حقيقة إحاطة جدران قذرة كتومة بهن واستقرار قرار حياتهن أو موتهن بأيدي حفنة من الأنذال والوحوش.
ولا يفوتها أن تنوه إلى حملات التضامن مع المعتقلين مما شاركت فيه بدورها قبل أن تعتقل: “جميع حملات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين والمظاهرات التي خرجنا بها لم يكن لها أي صدى، ورغم اعتقادي أنني أشعر بمعاناتهم إلا أنني كنت كاذبة، كلنا كاذبون، كنت نتوزع بعد الانتهاء من وقفاتنا الاحتجاجية على المقاهي لشرب القهوة، ولا مانع من تناول قطعة (الكاتو) في بعض الأحيان، نبدأ بلعن النظام ثم نتبادل الأحاديث العادية وكأننا انتهينا من أداء واجب وظيفي… تعاطفنا معهم دون أن نشعر بهم، ربما بكينا لأجلهم لكننا لم نعش معاناتهم”.
وتفرد حاكمي صفحات من روايتها على الأكثر تداولاً عن المعتقلات؛ قضية الاغتصاب، وتحكي في أحد المشاهد عما جرى في أحد الأيام داخل فرع الأمن السياسي بحمص حين تتناقل السجينات عبارة “مديحة انتحرت” ليأتي رد الفعل عندما يتم نقلها خارج السجن وهي ما تزال حية بـ “سجينة تقطع الصمت الطويل قائلة: عافى الله مديحة ولكن رب ضارة نافعة، الحمد لله لم تذهب إحدانا اليوم إلى السادسة.
رد الفعل الغاضب لباقي المعتقلات أثار فضولي…..
– أم يوسف أجيبيني من فضلك ما هي السادسة التي يتكلم عنها الجميع؟
– هس… اشكري الله بصمت أنك لم تزوريها
– هل هي غرفة تعذيب؟
– وأي تعذيب يا ابنتي… إنها الغرفة الأخيرة في الممر، يأخذ العناصر المعتقلات إليها ليلاً ويقومون باغتصابهن”
– كل المعتقلات؟
- اشكري الله بصمت”.
ثم في ذاكرتها عن مشهد آخر، تكتب:“عرفنا حين عادت سلام أنهم أخذوها حوالي الساعة الحادية عشرة، استطاعت أن تنظر إلى الساعة الحائطية في غرفة أحدهم ولكنها ما لبثت أن فقدت إحساسها بالوقت، ولم تعد إلا والدم يخرج من ثدييها. هكذا كانت طريقتهم في تعذيبها منذ أن شاهدوا صورها في جهازها الخلوي، قرأوا رسائلها إلى أختها المقيمة في أبو ظبي تطلب منها حمالة صدر بيضاء مقاس خمسة وثمانين، وفي كل مرة كانوا يخبرونها أنها لن تخرج قبل أن يجعلوا مقاس صدرها خمسة وتسعين”.
وتفصل في مواضع أخرى عديدة ظروف معتقلات آخريات واجهن العنف الجنسي، مسلطة الضوء على أن الاعتداء الجنسي على النساء داخل سجون النظام لا يقتصر على الجميلات أو الصغيرات أو قريبات المطلوبين لفروع الأمن، بل يتعداه إلى كبيرات السن، ممن لا يثرن رغبة السجانين الغريزية، لكنهن يثرن ما فيهم من وحشية فلا يتورعون عن إدخال العصي في أرحام السبعينيات من المعتقلات.
هذه التفاصيل وغيرها مما تأتي الرواية على تناوله، تفتح تأويلات عنوان الرواية على أقصاها، فالمعتقلات محكومات بالموت البطيء داخل توابيت فروع الأمن السورية، وما فيها من سطوة شهوة السجانين الوحشية، المرضية والمتشفية. وهن كذلك داخل توابيت عذاباتهن يعشن شهوتهن الخاصة بالتحرر، وتتأرجح مشاعرهن إذ يتذكرن أحبتهن ويشتهين لحظة حانية واحدة معهم، تتأرجح بين الشوق الجارف حد الانكسار، والخوف من مصير حبِّ كلٍّ منهن عند إطلاق سراحها حد الانكسار كذلك. هذا التأرجح تعكسه إحدى عبارات الإهداء التي تفتتح بها الكاتبة شهادته إذ تقول: “وأما المذكر الوحيد الذي يستحق الشكر فهو الألم ومن شاركني وشاركهن إياه”.
تعكس الرواية مدى الحصار المفروض على المعتقلات السوريات فيما يرتبط بالمفهوم الاجتماعي الشائع للشرف، وربط هذا الشرف بجلاد ينتهكه من جهة، ومذكر يبحث عن حلول الانتصار للشرف المهدور بالقتل أو التنكر من جهة أخرى.
من ناحية أخرى، تتناول الرواية موضوع أمان المعتقلين بعد إطلاق سراحهم، وتوضح أن المعتقل الذي يحلم كل يوم بالعودة إلى بيته وأحبته، لا يجد أمامه طريقاً سوى إلى المنافي، ليعيش هناك خوفاً من نوع جديد، خوفه على من بقي من أسرته في متناول يد النظام وأمنه.
لا بد أن قراءة هذه الرواية هي عمل شاق، ستبكي في مواضع كثيرة منها، ستحاول التضامن مع المعتقلات بتخيل أقصى ما يمكنك تخيله من تفاصيل المشاهد المروية، لكن ما الذي يحدثه البكاء في واقع المعتقلين السوريين المغيبين رجالاً ونساء؟ لا بد أن يكون هذا الملف على رأس أولوياتنا نحن السوريين اليوم، ولا بد أن نحشد من أجله من مواقعنا أنى كنا، لا سيما في فترة تفرض فيها القوى الدولية خياراتها السياسية على مستقبل الثورة السورية والدولة السورية والشعب السوري من خلال ما يتم العمل عليه من صياغة دستور جديد لسوريا، توضح الأسماء المعلنة لمن سيتولون صياغته على أي هيئة سيكون، ولصالح أي الأطراف في سوريا، وأننا كذلك نواجه منذ سنوات الثورة الأولى تجاهلاً دولياً وأممياً فظاً وظالماً لشهداء الثورة السورية ومعتقليها، وهو ما تشير إليه الكاتبة إذ تقول: “ستتوقف الأمم المتحدة عن توثيق أعداد الضحايا السوريين لعدم توفر مصادر موثوقة في ظل ظروف الحرب المعقدة. كيف يمكن تجاهل مئات الشهداء الذين يتساقطون يومياً هكذا بكل بساطة؟ ألا يكفي تقاعس العالم بأكمله عن إنقاذ هذا الشعب؟”.
هذه الشهادة إن لم يكتب لها أن تكون وثيقة لإدانة النظام السوري وفروعه الأمنية، فيجب أن تكون – على مذهب أضعف الإيمان – وثيقة تاريخية لنا نحن أبناء الثورة السورية، لنعرف كيف نثبت على ألمنا ولا نساوم عليه، ويعرف أبناؤنا وأبناؤهم أي ثمن دفعه السوريون، أي نظام واجهوا، وأي قيم يفتقد العالم اليوم.
سوريا كما نحلم نعيشها اليوم كما لا نتمنى أن نراها في أسوأ الكوابيس شراسة، رواية حاكمي رغم غناها بما مرت به الكاتبة إلا أنها بعض قليل مما يحدث منذ سبعينيات القرن الماضي، إنها شهادة من شهادات كثيرة لا يريد أحد سماعها و لا التعامل معها لإنهاء هذا الجاثوم على قلوب جميع السوريين.
نحمد الله على سلامتك و ندعو للباقين بالسلامة.