التشريعات والقوانين وقرارات الدولة تحدد حياة الأفراد والشعوب. والمواطن السوري العادي كان وما يزال يقف أمامها يكاد لا يفهم كيف تمت وماهي هذه القوانين وكيف أنه يكاد يكون غريبا عنها وكيف هي غريبة عنه وعليه.
سأحاول في هذه المقالة الإجتهاد في شرح الحالة السورية وارتأيت تقسيم الحالة التشريعية إلى ثلاث مراحل سأسميها بالثلاث طبقات.
الأولى هي طبقة مجموعة القيم والعادات والأعراف الموجودة في مجتمع فيه حد أدنى من التنظيم والترابط بين فئاته وأفراده، والذي كانت آخر الأشكال التي تطورت فيه هي الدولة الحديثة.
الطبقة الثانية هي تحول هذه القيم والعادات والأعراف، أو بشكل أدق وأكثر واقعية تحول جزء من هذه القيم إلى شرائع وقوانين ونظم مُلْزِمة لكل أبناء هذا المجتمع وتقوم سلطة الدولة أولا بتبنيها وسنها كقواعد في إطار قانوني رسمي. والدستور هو القانون الأعلى الذي تليه قوانين ومراسيم ونظم والتي يجب أن تكون متوافقة ومنسجمة معه.
تحتوي هذه الطبقة عادة على شكل الدولة وعلى تقسيماتها الإدارية وعلى نوع نظام الحكم والحكومة وتنظيم أجهزة الدولة والسلطات المتعددة ووظائفها. المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي ارتبط بها البلد تكون في هذه الطبقة.
الطبقة الثالثة هي الواقع التطبيقي لهذه القوانين والمعايير الملزمة التي تبناها المجتمع. ويمكننا إضافة وجه آخر وهو وظيفة الدولة ومهمتا بالإشراف على تنفيذ هذه القوانين وعلى احترامها من قبلها هي أيضا.
ماهي الأسئلة التي يواجهها الإنسان السوري في الوضع الحالي وفي أية طبقة تقع هذه الأسئلة؟
لا شك أن صدمة الحرب، أو الأزمة كما يسميها البعض، هي عنيفة إلى درجة أنها وضعت على الطاولة مواضيع كان من المفترض أن المجتمع وجد لها حلولا وتجاوزها منذ زمن طويل.
الجميع يعرف أنه كان هناك خلل كبير في المستوى الثالث حيث أن الدولة التعسفية وانتشار الفساد الإداري جعلا من دولة القانون المفترضة منظومة محسوبيات وفساد وتجاوزات. بدء اً بتعديل الدستور بشكل “غير دستوري” ومرورا بالتوقيف التعسفي وبالمحاكم العرفية وانتهاء بانتشار الرشوة أصبحت منظومة المعايير موضع شك وأضاعت الكثير من هيبتها ومصداقيتها.
تَفَكُك البلد واقعياً وخروج كل مناطق البلد ومؤسساته، التابعة للنظام والتي تقع خارج سيطرته، عن سلطة الدستور والقانون، كل هذا زاد من إشكاليات الطبقة الثالثة. وهذا الوضع في هذه الطبقة والتي أسميها بالأخيرة أو السطحية يوجهنا بشكل تلقائي إلى الطبقات التي تسبقه.
وعند العودة إلى الطبقة الثانية، أي طبقة التقنين والتشريع تنكشف عورات كثيرة على ضوء واقع التطبيق. وحين نتساءل عن سبب هذا الإستخفاف بالقوانين والنظم أول ما يخطر بالبال هو قضية الشرعية. شرعية المعايير نفسها كقيم وقواعد تحكم المجتمع وشرعية السلطات التي تسنها.
الجواب عن القسم الثاني هو سهل جدا ولايحتاج الكثير من النقاش. فالسلطات التي تبنت قسما كبيرا من القوانين خلال الستين سنة الماضية هي استبدادية ديكتاتورية لا تتمتع بأية شرعية دستورية وديمقراطية.
أما فيما يتعلق بشرعية القوانين والنظم فهو موضوع أكثر تعقيدا. قسم من القوانين كان موجودا منذ العهد العثماني لكن قام الانتداب الفرنسي بسنّ كثير من القوانين الحديثة في كل المجالات التشريعية، وبعد الاستقلال لم تحصل فترة استقرار طويلة كافية لتبني قوانين منسجمة مع الاستقلال الوطني وتعكس طموحات ورغبات وأصالة المجتمع أي القيم المشتركة بين فئاته.
كانت فترة الاستقرار السياسي قصيرة جدا لكي تكون فترة “رخاء تشريعي” فقد تلتها مرحلة انقلابات انتهت بعهد الوحدة ثم عهد البعث، عهدان تميزا بخلق شروخات اجتماعية جديدة وباستبداد في السلطة ونتجت تشريعات غريبة عن المجتمع وفوقية تمثل عقائدية أحادية فرضت على المجتمع معايير بعضها يتميز بالعنف مثل القمع السياسي وقوانين وقرارات التأميم.
التشريعات الإيديولوجية مثل التأميم وبعض القوانين المستوحاة من الشيوعية لم تكن نتيجة توافق وتفاهم اجتماعي إنما نتيجة فكر وتشريعات مستوردة مثل المعلبات الغذائية. بعد سقوط الأنظمة الشيوعية تبنى النظام مرسومات ليبرالية استفادت منها أقلية فاسدة مقربة من النظام.
هذه النقاط تجرنا نحو موضوع الطبقة الأولى والتي تسبق التشريع القانوني بمعنيين: الأول مرحلة ما قبل تبني القيم، بما فيها الدينية، والعادات والأعراف في قواعد قانونية ملزمة في إطار حدود وسلطات ونظم الدولة الحديثة، والمعنى الثاني هو تلبية رغبات وطموحات وحاجات المجتمع والتوافق لسن حلول لها عبر قوانين ونظم وقرارات.
وهنا نكتشف أننا في وضع ليس أفضل من الطبقتين المذكورتين أعلاه. فخلافات كثيرة ازدادت حدتها، ليس في شكل الدولة ونظام الحكم والتشريعات والسلطات فقط، لكن أيضا في مصادر التشريع. جدل قديم بين العلمانييين والإسلاميين إزدادت حدته وجدل حول الديمقراطية كنظام حكم ومسائل أخرى كثيرة لم تلق حلولا بعد، منها مسألة القومية والوطنية والأقليات، وكل هذا في ظل وجود احتلالات متعددة للبلد وانعدام سلطة سورية موحدة وذات سيادة.
إني وصلت إلى عدة استنتاجات منها أن المسألة التشريعية في سورية تقع في ثلاثة طبقات وأنه لا يمكن تجاهل أية واحدة منها. وأرى أن كل الحلول لايمكنها أن تكون مجدية وناجحة على المدى الطويل إلا بالمرور عبر حد أدنى من التوافق ومن الأصالة ومن الحداثة. قد تكون حقوق الإنسان هي القاسم المشترك الأصغر الذي يربط بين كل هذه العناصر، لكن شرط عبورها امتحان الطبقات الثلاثة.
عذراً التعليقات مغلقة