حلب وذاكرة الموت

فريق التحرير9 أغسطس 2016آخر تحديث :
حلب وذاكرة الموت

الياس خوري* الياس خوري
تدور اليوم في حلب حربان على الأقل:
الحرب الأولى هي حرب الحصار والتجويع، وهما سلاح نظام آل الأسد في مواجهة الشعب السوري. فلقد استخدمت آلة الاستبداد جميع الأسلحة المتاحة من البراميل إلى الكيميائي، واستعانت بطائرات السوخوي الروسية، من أجل الوصول إلى هدفها الثابت في إذلال السوريين وتجويعهم. وقد رأينا نماذج لأثر هذه السياسة في الغوطة وحمص القديمة وحي الوعر. ولا يخرج مشروع حصار الأحياء الشرقية في حلب التي تسيطر عليها المعارضة عن هذه الترسيمة، حيث سيتعرض أكثر من ربع مليون سورية وسوري للجوع والإذلال والموت. والغريب، الذي صار متوقعاً، أن العالم وقف متفرجاً بل متواطئاً مع هذه السياسة الهمجية، بحجة الحرب على الارهاب والتيارات الإسلامية الأصولية!
في هذه الحرب هناك ضرورة اخلاقية للوقوف إلى جانب المحاصَرين، فلا يوجد أي مبرر يسمح باستمرار هذه المجزرة، ويغطّي سياسات همجية تجعل من الناس وقوداً للموت والذلّ. فحرب الحصار هي التجسيد العملي لصناعة الموت السوري، وهي صناعة اتقنها الأسد الأب، ويجتهد الابن اليوم لتحويلها إلى إحدى أساطير الموت في التاريخ العربي، حين نجح في التفوق على همجية المغول، عبر مغولة سوريا وتحويلها إلى أرض سائبة تسود عليها البربرية بجميع اشكالها.
الحرب الثانية هي حرب تحويل سوريا إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، وهي في الواقع مجموعة من الحروب المتداخلة. فاذا حاولنا تحليل خريطة مشروع الحصار، سنكتشف ثلاثة عوامل:
العامل الأول هو العامل الديني- الطائفي. فحرب حصار حلب تخاض بسلاح تعبوي ديني، القوى التي تقدمت عسكرياً من أجل حصار حلب هي خليط من الميليشيات الشيعية التي تعمل تحت غطاء جيش النظام السوري. فهناك قوات الحرس الثوري الإيراني التي تتصدى لقيادة المعركة، ويعمل تحت امرتها حزب الله اللبناني إضافة إلى ميليشيات شيعية عراقية وأفغانية وباكستانية. القوى العسكرية الرئيسية التي تزج في المعركة ليست سورية، وان ادعى نظام آل الاسد انه يقود المعركة.
واللافت أن الخطاب السياسي «الممانع» الذي يحاول أمين عام حزب الله اضفاءه على المعركة لم يعد مجدياً. فالخطاب السائد في صفوف هذا الخليط من الميليشيات هو خطاب طائفي، ارتسمت ملامحه منذ اليوم الأول للتدخل العسكري الحزب الهي في سوريا، عندما أُعلن أن هدف التدخل هو حماية مرقد السيدة زينب في ضاحية دمشق، ثم تدحرج الأمر وصولاً إلى القتال في حلب حيث لا مراقد سوى لأبناء المدينة الذين يُقتلون بشكل عشوائي عبر آلة «القصف البراميلي» المدمرة.
وفي المقابل، وعلى الرغم من أن فك الحصار عن حلب ضرورة انسانية تتعلق بمصير أبناء المدينة، فإن هيمنة الخطاب الإسلامي الاصولي على القوى المقاتلة، وانهيار الخطاب الوطني الذي مثله الجيش الحر والمعارضات المختلفة، ليس تفصيلاً صغيراً. فدور ما يطلق عليه اسم «الإنغماسيين» من الحزب الإسلامي التركستاني القادمين من الصين، اضافة إلى جبهة «فتح الشام» (النصرة سابقاً)، وصولاً إلى قيام «فيلق الشام» باطلاق اسم ابرهيم اليوسف على مدرسة المدفعية في حلب، (النقيب في الجيش الســوري ابراهيم اليوسف انضم إلى الطليعة المقاتلة المتحدرة من حركة الاخوان المسلمين، جماعة مروان حديد، ونفّذ مجزرة 16 حزيران 1979، حين قام بجمع الطلاب من الطائفة العلوية في المطعم وقتل 80 طالباً منهم، في عمل وحشي طائفي)، تقدم صورة داكنة عن الهاوية الدينية – الطائفية التي تنحدر اليها سوريا، كمؤشر على انحدار المشرق العربي بأسره.
العامل الثاني هو الصراع الإقليمي الدولي على سوريا. بلاد الشام كلها، وليس لبنان فقط، صارت ساحة للصراع الإقليمي والدولي، ولم يعد في استطاعة احد تحليل الحرب السورية بأدوات سورية.
واللافت أن هذا الصراع الدولي يجري بلا ضوابط، فنحن في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث امحت الحدود القديمة بين المعسكرين القديمين، ولم نعد متيقنين من ثبات السياسات والتحالفات. هل حصار حلب كان محاولة لاستغلال الارتباك التركي بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة؟
وهل فك الحصار هو إعلان بعودة التماسك إلى الموقف التركي مقدمة للقمة الروسية التركية؟ وماذا يريد الروس من انجرارهم إلى معركة حلب؟
وما هو الدور العربي في المعادلات الجديدة؟ واين دول الخليج التي شكل تدخلها احدى علامات انتصار المدّ الإسلامي في الثورة السورية؟ وما هو الموقف الامريكي؟
أسئلة ستبقى أجوبتها مؤجلة إلى أن ينجلي غبار الحرب السورية. لكن من الواضح أن القوى المحاربة صار منسوب العامل الخارجي فيها أكبر بكثير من مكوناتها الداخلية، وهذا مخيف، لأنه لا يقدم أي بصيص يسمح للضحايا بأن يعدوا أنفسهم بأي شيء.
العامل الثالث هو استكمال للعاملين السابقين، إذ يجد الشعب السوري نفسه بلا قيادة وطنية وبلا مشروع سياسي وطني وديمقراطي. لقد صار النظام ومعارضاته خارج المعادلة، وتحولت سوريا إلى ساحة مستباحة بشكل شبه كامل. لم يعد القرار سورياً، صار القرار للخارج الذي يمتلك القدرة على حشد المقاتلين، اما السوريون فصاروا مجرد وقود للحرب.
لا أريد التقليل من تضحيات الشعب السوري الهائلة، ومن إرادته التي انفجرت سنة 2011 معلنة نهاية زمن الخوف، فهذه التضحيات علامة حياة وإشارة إلى الأفق، لكن ثورة الشعب السوري قُمعت بوحشية وسُرقت واستبيحت من قبل قوى الثورة المضادة المدعومة دولياً وإقليمياً.
تحويل سوريا إلى ساحة يعني أن ما يجري اليوم هو صناعة ذاكرة الألم السوري وليس صناعة التاريخ السوري الجديد. وهذا ما عشناه في لبنان، حين ابتلعت الطوائف والقوى الإقليمية الحرب اللبنانية، فلم تترك لنا منها سوى ذاكرة الموت، وجرى استيلاد نظام سياسي اسمه نظام الحرب الأهلية، يتابع الحرب بلا قتال، ويحول الوطن إلى منهبة.
حصار حلب يكشف اليوم عمق أزمتنا مع صناعة تاريحنا، فالساحة لا تنتج سوى ذاكرة لا تلتئم جراحاتها. سوريا اليوم على حافة ذاكرة الألم، والضوء لن يأتي إلا إذا نجح السوريون والسوريات في استعادة ثورتهم.

* نقلاً عن: “القدس العربي”

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل