دراسة: نبيل أدهم محمد
بجراحات الواقع وآمال الغيب الّذي يتكثُّف لينزَّ ألمًا؛ نقرأ عملًا مهمًا يحاكي المحرقة السورية على مدار السنوات الثمانية السابقة، (أبناء الوحشة) رواية لفوز الفارس أتقنتِ الكاتبةُ نسجها وترتيب تفاصيلهِا لتصبحَ النظرة ثاقبةً تسيرُ على خيوطٍ متباينة الألوان.
للقارئ في الواقع السوري بكلّ ألوانه وأبعاده مسارات قد يجمعها الدمُ والدمع، وأحيانًا كثيرة يشقّها الشقاءُ والانكسار، تشاركُ فيها كلّ شخصيّةٍ رحلتها حتّى بلوغ الموت الأكبر، وتعايشُ في طريقها تفاصيلَ تتضحُ صرخاتها على يدِ الأدب.
هذا ما فعلته الكاتبة حينما جعلت من اللغة بلّورة عرّافةٍ تُرينا بها الحدثَ وربّما تقذفُ بنا في أعماقها في أحايين كثيرة، لنتّحدَ مع الشخوصِ ونعايش الصراع النفسيّ الخفيّ الذي تكابده.
قدّمت لنا فوز عددًا من الشخصيّات التي تتكئ عليها الأحداث، وكلّ واحدةٍ منها تنزفُ بعالمهِا الضيّق، تسيرُ وراء رؤيةٍ تتكشّفُ ملامحها تباعاً ضمنَ الحدث الكلّي صوّرته الكاتبةُ بدقة وبراعة.
(راضية) تلكَ المرأة المثقّفة الّتي ارتكزت عليها الأحداث بشكلٍ كبير، وكان لها النصيبُ الأكبر من الألم الذي سكبه الآخرون في حياتها، وزوجها الّذي كانَ بمثابة الصاعق لقنبلة انفجر أساها ولم ينتهِ بموته، وأخوها (فارس) شابٌّ تفتّحت زهرةُ عمرهِ على صخبِ الحربِ وألوان الموت، لم ينتظر الخريفَ بل أسرع إليهِ، و(محمد) رجلُ الذكرياتِ وفارسُ الخيبات، المتسلّق على سلالمِ الجراحِ لينالَ مبتغاه، وشخصيّات أخرى كانَ لكلّ واحدة منها خطوة في دربِ الألم.
تبدأ أحداث الرواية بجزئيّة تمتلئ بها حياةُ الكثيرين، لتستطردَ الكاتبةُ وتعود بنا إلى الماضي الذي كان بمثابة هروب من الواقعِ، فانخراطٌ بحربٍ تبدو بلا نهاية، تبدأ بالخوفِ مرورًا بميتات كثيرة ونزوحات تشبهُ موتًا طويلًا، يمتزجُ كلّ هذا ليحدثَ تشظٍّ يقذف الجميعَ بنفقٍ من الحقدِ والانتقام والخيانةِ، وينتهي بخوفٍ من المستقبل في ظلّ الحرب، أمّا الفقدُ فكانَ السمةَ الأبرزَ بين الأحداث، فقد كانت (الحربُ هلاميةُّ الشكلِ) كما صوّرتها الكاتبةُ أساسَ هذا التشظّي المجنون.
تكشفُ الكاتبةُ لنا الصراعَ النفسيّ المتمثل بالشخصيّة الأكثر عمقًا وثقافةً (راضية) وقد ظهرت ملامحهُا من خلال جمالٍ متواضعٍ قلّص خياراتها في مجتمعٍ قرويِّ يقدّس الجمال؛ لتتسعَ ساحتهُ بحياتها الزوجيّة التي تنتهي بالخيانةِ من كلا الطرفين.
أمّا (محمّد) فيرمزُ إلى الشخصيّة الوصوليّة، تلكَ الّتي تحملُ بجعبتها أقنعةً كثيرةً ترتدي ما تريدهُ كيفما يتطلّب الموقف وتنزعُه بموقفٍ آخر، استخدمَ بقايا الحبّ القديم ليبني عليهِ صرحَ شهوتهِ، ربّما شهوةُ الانتقام من راضية لأنها تخلّت عنه ذات زمن، أو ربّما شهوةَ الانتصار الّتي يحملها ضابطٌ بعنفوان شبابه، حتّى لو كان هذا الانتصارُ على حسابِ حياةِ أحدهم أو عن طريقِ السامي من الأشياء.
لقد وظّفت الكاتبةُ هذه الأحداث والقصص بأسلوبٍ أدبي واقعيّ مُتقن لحياةِ مجتمعٍ متهاوٍ في أعماقهِ لا يحتاجُ حربًا لتنقضَ بنيانه، حيث تسرّبت من دون عناء إلى أعماق الشخصيّات وأبعادها النفسيّة لتكشفَ مدى عمق الشرخ في دواخل المجتمع وفي العلاقات الأساسيّة في التكوين البشري والاجتماعي.
نجحت الكاتبة في توظيف بعض الشخصيّات وتفاصيل حياتها الدقيقة (كالأم والأب وغادة ونهال والأقارب…) لتكشفَ الستار عن عادات المجتمع السوري القروي، وتُعرّي العقليّة المتّبعة في التعاطي مع المشاكل، وملامح العلاقات بين الناس وتفاصيلها.
كان الحبّ في أبناء الوحشةِ بعيدًا جدًا تصعبُ رؤيتهُ، اختفى مع بداية انسدال العتمة.
كلّ ذلك بلغةٍ رشيقةٍ عالية وأسلوبٍ سرّدي جميل استرسلت فيه الكاتبة لتوصلنا إلى النهاية في ذروة النشوة الأدبيّة.
أغلقت الكاتبة روايتها أبناء الوحشة بجدرانٍ من الألم والفقد والتصدّع، نهاياتٌ موجعةٌ باكرة، وموتٌ على قيد الحياة، وآمالٌ وأحلامٌ اصطدمت بالواقع المحارِب المُحارَب فاسّاقطت مزقًا ومَن نجا منها انتهى بسجن اليأس.
** *** **
- نبيل أدهم محمد: كاتب وشاعر سوري
حلوة كيف ممكن نحصل على الرواية