* نصير شمه
في الفنون إجمالا، هناك توصيفات مختلفة للأعمال الفنية، وهذه التوصيفات التي تندرج نقديا في إطار المدارس المختلفة، تطبع أعمال الفنانين على اختلافهم،
ويصنفون تبعا لها، كأن نقول إن هذا الفنان انطباعي وآخر تكعيبي أو سريالي.
في الفنون التشكيلية تبدو مسألة المدارس النقدية أكثر حضورا وأسهل في الاستدلال عليها، فالمدرسة الانطباعية لا تعطي شكوكا في تحديدها، وكذلك مختلف المدارس الأخرى التي ليس من شأني الحديث عنها في هذه المقالة.
في الموسيقى المسألة تختلف بعض الشيء، فنحن نرى أن النقاد أو جمهور المستمعين يحددون المقطوعة الموسيقية بأنها من الموسيقى الكلاسيكية أو عصر
الباروك أو عصر الحديث، ورومانسية أو حماسية أو صوفية، إلى آخر ما هنالك من توصيفات، لكن قلما نستطيع تحديد الهوية النقدية العميقة للعمل الفني
الموسيقي.
النقد الموسيقي في أغلبه أيضا لم يسع لوضع نظريات أو مفاهيم معينة تحدد عملية النقد، وتجعل الناقد أيضا يقارب العمل الموسيقي ضمن مفاهيمها، وظل النقد
الموسيقي طيلة الوقت متأخرا بمراحل كبيرة عن النقد في الفنون الأخرى الأدبية أو التشكيلية أو غيرها من الفنون المختلفة.
وهكذا ظلت الموسيقى في أغلب الأحيان تُقارب نقديا بشكل يكاد يكون سطحيا لا يتعمق بالمدارس، بقدر ما يستخدم السطح المباشر للعمل الموسيقي، ليتم توصيفه من خلالها. ويكتفي أغلب النقاد بدراسة الأغاني أو الموسيقى ضمن هذا الإطار، وقد يضيفون تعبيرا عاطفيا أو رومانسيا إلى قراءتهم للعمل، ونادرا ما نجد ناقدا
يتخطى هذه المفاهيم، ويقرأ أعمال موسيقي ما محاولا تخطي أزمة النقد الموسيقي ليضع نظريات جديدة أو يبني مفاهيم لتتم الدراسة من خلالها.
بينما نجد في أطروحات الماجستير والدكتوراه الكثير من الباحثين في مجال الموسيقى العربية، تعمقوا في تجارب وتأثير هذا المؤلف أو ذاك بمنهجية، وإن كانت غربية في قواعدها، لكنها تنصف المجدد من المقتبس من السارق، وتضيف بتسليط الضوء على التجديد لدى كل اسم، وللأسف هذا لم يصل للعامة، وفي الغالب يبقى حبيس المكتبات الجامعية والمهتمين بينما المهم أن يعرف الجميع من أين جاء الشيخ زكريا بكل هذا الإنجاز؟ وكيف تطور مشروعه؟ وما هي الروابط التي جعلت هويته متأصلة وصلت إلى ما وصلت إليه؟ ومن أين جاء الموسيقار القصبجي بنزعة الحداثة التي طبعت أعماله؟ وكيف استطاع سيد درويش الانفلات من الطقوس العثمانية، التي كانت تطبع الغناء الكلاسيكي؟ وما هي أدواته بالتمرد على ما كان سائداً بطريق جديد مغاير؟ وكيف تمكن الموسيقار رياض السنباطي من خلق رؤية جديدة ومبتكرة للقصيدة العربية لتصبح بناء وعمارة خاصة به وحده وغير مسبوقة؟
الناس يعرفون أنهم متميزون لكن لا يعرفون أدوات تميزهم ولا أهمية إضافاتهم.
الكتابات التي كانت تسود أن الموسيقار استخدم إيقاع التانغو وأدخل آلة البيانو لأول مرة، وهذه ليست ذات أهمية على الإطلاق، المهم قدرة الموسيقي على
الابتكار وتغيير السائد والقدرة على التأثير بأكبر قاعدة جماهيرية وطبع عصر كامل بذلك التأثير.
طبعاً لم تكن كل المراحل الماضية عربياً خالية من بعد النقاد الذين يعدون استثناءات، لكن حب الكتاب الصحافيين للغناء والموسيقى جعل بعضهم يختص بالكتابة عن بعض الظواهر، لكن بطريقة وصفية غير متخصصة، وحتى بعض الكتاب الصحافيين الكبار حاولوا التعمق وألفوا كتبا عن رموز غنائية وملحنين ومؤلفين موسيقيين، لكنها أخذت منحى الحوارات أكثر منها نقداً وتحليلات وشرحاً.
المكتبة النقدية الموسيقية، مكتبة فقيرة، بل تكاد تكون شحيحة في عطائها، وفي اللغة العربية نكاد نصف الكتاب الموسيقي بأنه كتاب نادر، ولا أقصد بالطبع بالكتاب الموسيقي، تلك الكتب التي تتناول حياة مطربات ومطربين أو فنانين موسيقيين، بل أقصد النقد الموسيقي الذي يسعى لبلورة مفاهيم يستفيد منه الموسيقي الباحث أو الدارس كما المستمع أيضا على نسب متفاوتة.
صحيح أن الترجمة عن لغات مختلفة سدت بعض النقص الشحيح أيضا في المكتبة الموسيقية، لكنها لم تصل أبدا لبناء مكتبة حقيقية، ليس فقط بسبب نقص المهتمين
من المترجمين أو دور النشر، إنما أيضا لأن النقد الموسيقي لم يستوف حقه ليس في العربية وحسب، بل في أغلب لغات العالم.
والسعي إلى وضع نظريات موسيقية يواجه غالبا بمشاكل لا تحصر، فالباحث أو الدارس الذي يبحث عن مراجع متخصصة سيجد نفسه غالبا مضطرا إلى الاستعانة بمدارس نقدية تخص الفنون الأخرى، وطبعا لا ضير في هذا فالفنون تغتني من بعضها بعضا، ولكن ليس كل ما ينطبق على المنظور والمرئي يصلح لأن ينطبق على المسموع والعكس صحيح أيضا.
وعلى الرغم من أن تاريخ المكتبة العربية في مجال الكتب الموسيقية كان غنيا على عكس المكتبة الموسيقية في بقاع أخرى من العالم، إلا أن البحث العربي في هذا المضمار تراجع بشكل كبير كما تراجع للأسف في غيره.
وإن حفلت المكتبة الموسيقية تاريخيا بمخطوطات للفارابي وغيره، وجدنا أن الغرب كان المستفيد الأكبر من هذه المخطوطات، فقد بنى باحثوه على ما قرأوه من المكتبة الموسيقية العربية، التي قام مستشرقون بنقلها إلى لغات مختلفة، فيما ظل العرب يعيدون نشر هذه الأعمال من قبل دور نشر مختلفة وبأغلفة مختلفة مهتمين بالتجليد أكثر من اهتمامهم بمتابعة البحث أو محاولة تشجيع الشباب الذين لديهم قدرة بحثية تضمن لهذا المجال أن يتحرك ويتقدم.
قد يأتي قائل ليقول، إننا لا نحتاج النقد الموسيقي لنستمتع بمقطوعة موسيقية أو أغنية ما، وهذه المقولة طالما سمعتها من جمهور يستمتع بالموسيقى أيضا متعة
حقيقية، لكن هذه المتعة لا تستطيع إيصاله إلى حد الفهم العميق للمعنى الموسيقي بمجمله، فتبقى الموسيقى بالنسبة لشخص من هذا النوع مجرد إيحاء بالمعنى
المباشر والسطحي، تماما مثلما يواجه أحدهم لوحة فيقول إنها سهلة جدا ومن الممكن أن أرسمها في خمس دقائق، لأنه يرى سطح الخطوط ويقرأ سطح اللون
ولا يستطيع أبدا الدخول في العمق. والدخول في عمق العمل الفني ليس ترفا أبدا، هو حاجة أساسية للبناء الروحي والنفسي للإنسان، وهو أيضا تعميق لثقافة الإنسان ليس في المجتمع فحسب، بل أيضا في الإطار الروحي المتشابك للفرد.
* نقلاً عن: “القدس العربي”
عذراً التعليقات مغلقة