علماني أم إسلامي

سمير سعيفان19 يوليو 2019آخر تحديث :
علماني أم إسلامي

تصاعد التراشق في السنوات الأخيرة بين العلمانيين والإسلاميين، وعلى الرغم من بعض الآراء الموضوعية، فإن السمة السائدة تنطلق من موقف مسبق معادٍ، يقوم على سوء فهم، فالإسلامي يعادي العلمانية ويعدها صنو الكفر والإلحاد، وأنها منتج استعماري “صليبي”، و”العلماني”، بمعنى غير الإسلامي، يعادي الإسلاميين، ويعدهم ماضويين ومن “القاعدة” و”داعش”. وكلا الفهمين غير مطابق واقعيًا، وغير مفيد عمليًا.

ليست غاية هذه المقالة البحث عن التعريفين الصحيحين، للعلمانيين والإسلاميين، ولا المحاججة دفاعًا عن هذه الفئة أو تلك، بل البحث عن سبل لتنظيم حياتنا المعاصرة على النحو الأفضل الذي يستجيب لمتطلبات العصر. وتقدم تجارب دول العالم المتقدمة معرفةً غنيةً لنا تساعدنا في صياغة نظامنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهي تقدم لنا الخطوط العامة والقواعد التي ضمنت للآخرين التقدم، وصنع حياة سعيدة، ولكن تلك التجارب لا تحدّد بدقة السمات الواقعية الذي تناسب بلداننا، فهذا سيكون إبداعنا.

العلمنة هي نهج لتنظيم الدولة العصرية، وهي صفة للدولة، تقوم على القول الشهير للملك فيصل الأول “الدين لله والوطن للجميع”، أي فصل الدين عن الدولة وجهازها المدني والعسكري، وينطلق من أن الدولة جهاز حيادي عن الأحزاب والأديان والطبقات والقوميات داخل الدولة. ويقرّ أن نظام الحكم والحاكم هو حق للشعب يختاره بإرادته الحرة. والنظام العلماني جزء أساس من النظام الديمقراطي الذي يقوم على مبادئ تداول السلطة، عبر صناديق الاقتراع، في مناخ من الحريات العامة في التنظيم والتعبير، تصون حرية الاعتقاد، بما فيها الاعتقاد الديني، وممارسة الشعائر وحقوق الإنسان وقيم المواطنة المتساوية وإعلاء شأن العقل والعقلانية، وسيادة القانون وفصل السلطات، فلا علمنة بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون علمنة.

لا علاقة للعلمانية، من قريب أو بعيد، بدين الإنسان أو مدى تديّنه أو ممارسته الطقوس من عدمها، وتعدها أمرًا فرديًا خاصًا. أي لا يتعارض مبدأ العلمنة مع الإيمان والتديّن وممارسة الطقوس بحرية. وككل الأفكار، ثمّة أكثر من نسخة من العلمنة، والمثالان المختلفان هما، العلمنة الفرنسية “اللاييك” المتشددة تجاه الدين، والعلمنة غير المتشدّدة مثل بريطانيا والولايات المتحدة واليابان وغيرها.

الإسلامي هو المسلم الناشط سياسيًا بمرجعية إسلامية، وليس كل مسلم متدين ممارس لطقوسه إسلاميا. وككل الأفكار ثمّة أكثر من نسخة من الإسلاميين، إذ يمكن أن يكون الإسلامي علمانيا، أو متشددًأ معاديًأ للعلمنة، فثمة قوى إسلامية تأخذ بمبادئ العلمنة والديمقراطية، ولا قيمة لزعم السلفيين أن الحكم لله، فالوحي لا يعين خلفاء ولا وزراء ولا نواب، وكما يقول الإمام علي عن شعار الخوارج أن “لا حكم إلا لله” أنها كلمة حق أريد بها باطل، وإنما كتاب الله مصحفٌ في دفتين لا ينطق، وإنما ينطق به الرجال.

نعرف اليوم أنماطًا مختلفة من الأيديولوجيات الأرضية التي هي بمثابة أديان أرضية، وهي تشكل مرجعية لأنظمة شمولية، وقد شهدنا في عالمنا العربي أمثلة لها في مصر وسورية والعراق وليبيا والجزائر. وتستبدل هذه الأنظمة المرجعية الدينية بمرجعية أيديولوجية أرضية، وهي تعادي الديمقراطية وترفض مبدأ تداول السلطة، ولا تقر بحقوق الإنسان، ولا بقيم المواطنة المتساوية، وتقمع الحريات العامة في التعبير والتنظيم. وقد يكون أتباع هذه الأنظمة مسلمين متدينين أو ملحدين لا فرق. وبالتالي، لا تعد هذه الأنظمة علمانية، بل هي تعادي العلمانية، على الرغم من اتخاذها شعارًا، فهي تدمج الحزب الحاكم بالدولة، والدولة بالحزب الحاكم، وهذا له الآثار نفسها لدمج المؤسسة الدينية بالدولة، وتجعل من إيديولوجيتها ما يشبه دينا أرضيا رسميا للدولة، فمثلا من غير الصحيح وصف نظام البعث أو نظام معمر القذافي أو النظام الجزائري بأنها أنظمة علمانية.

ويستنتج مما تقدم أنه يوجد أربعة أنماط رئيسة عريضة من القوى السياسية والثقافية، وهي: أولا: قوى وأحزاب علمانية ديمقراطية وهي تقسم الى فئتين: علمانية بمرجعية وضعية، مثل الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية والأميركية، وغيرها الكثير. وعلمانية بمرجعية دينية، مثل حزب العدالة والتنمية التركي، حزب النهضة التونسي، الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني. قوى وأحزاب شمولية مستبدة: شمولية بمرجعية دينية (استبداد ديني) مثل نظام ولاية الفقيه في إيران ونظام عمر البشير في السودان. وشمولي بمرجعية وضعية (استبداد وضعي) مثل البعث والناصرية والشيوعية والفاشية والنازية. .. وتقف بين الفئتين فئة ثالثة، تلبي متطلبات النظام الديمقراطي الشكلية، وفيها قدر محدود من الحريات، ولكنها في الجوهر والممارسة تتحول إلى نظام شمولي مستبد، مثل النسخة الروسية اليوم.

الإيديولوجيات الشمولية وتنظيماتها، سواء بلباس ديني أو لباس أيديولوجي دنيوي، هي تكفيرية تدعو إلى الطغيان، وهي العدو الحقيقي الذي على المؤمنين بالديمقراطية والعلمانية محاربته، سواء أكانت مرجعيتهم دينية أم وضعية. ومن ذلك أن البلدان العربية تقطنها غالبية مسلمة، والجزء الأكبر منهم متدينون، يمارسون طقوسهم بدأب شديد أو ضعيف.

كما توجد أقليات دينية، أو قومية، لها معتقداتها ومذاهبها، وعلى درجة من التدين الشديد أو الرخو، وبين هؤلاء جميعًا تيار حداثوي قوي يرفض استخدام الدين في السياسة، ويرفض مبدأ الأحزاب الفئوية الدينية أو الإثنية. ومن مصلحة جميع هؤلاء التعاون معًا، متدينين كانوا أو شبه متدينين أو حتى ملحدين، فالعقيدة شأن خاص، والعمل معاً في جو من التنافس لبناء بلدانهم وتحقيق نمو وازدهار يليق بهم في القرن الحادي والعشرين، فالمبدأ هنا هو قبول الآخر والتعاون بإيجابية، وهذا يتطلب تبني موقف علماني ديمقراطي من الجميع، وفق الفهم الذي تقدم. والعلمانية المتشدّدة لا تناسب مجتمعاتنا. وما تناسبنا علمنة تتسع لتنظيماتٍ تقبل أسسها وتقبل مبادئها، سواء أكانت مرجعيتها دينية أم دنيوية. والظلامية الدينية لا تناسب مجتمعنا وعصرنا. وأجزم أن معظم مجتمعنا العربي يقف إلى جانب مبدأ العلمنة والديمقراطية، عندما تشرح وتفسر على نحو صحيح، وتقدم بمثال حسن. ويتوقف مستقبل بلداننا على التعاون بين العلمانيين، أي كانت مرجعياتهم دينية أم دنيوية، وأن يتحدوا في وجه الطغيان، سواء كان طغيانًا بمرجعية دينية أو بمرجعية دنيوية. وثمّة حاجة لندوات مشتركة بين العلمانيين، من ذوي المرجعيات الدينية أم الوضعية أن يعقدوها شراكة لتحديد فهم موحد، وأسس متفق عليها لمجموعة أساسية من الموضوعات والقضايا التي تنظم جوانب النظام المبتغى الديمقراطي العلماني، بجوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وأن يعملوا معًأ من أجلها.

مثل هذا التحدي أمر مصيري الآن في السودان والجزائر لنجاح الثورتين السلميتين، ويكون مقدار النجاح بمقدار إبعاد العسكر عن الحكم.

المصدر العربي الجديد
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل