خلال حديث مع عمي حول شؤون الزراعة؛ استشهد بالحديث النبوي الصحيح (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها).
أعادني هذا الحديث وتفسيره الواضح في الحض على العمل وعلى الزرع كفعل خيرٍ حتى لحظة قيام الساعة؛ إلى أيام المناكفات مع عقول أصابها الصدأ في عهد حافظ الأسد، وتحولت إلى “سكراب” يباع في ساحات المعارك في أيام سلطة البراميلي الابن والإسلاميين.
فبينما كنت ومازلت أزرع، كان هؤلاء الناس يقطعون وما زالوا على هذه الحال. كنت أحاول تبيان أهمية هذه المقولة الدينية، في الوقت الذي كانت فيه خطاب المساجد و إعلام الإسلاميين مشغولا بالحوريات ومزاياهن الخرافية، بل وصل بهم الحال – كمسايرة للحركات النسوية الصاعدة ومطالب المساواة بين النساء والرجال – لابتداع مخدر جديد يقول بأن المرأة التي تحفظ القرآن سينزل معها “حوري” إلى القبر وذلك استمرارا لنهج “الخورفة”.
تركز الشروحات الدينية التقليدية على أهمية العمل في الحديث السابق لكنها تنسى أمراً أكثر أهمية فيه، وهو زرع الأمل والخير والخصب في تلك الصحاري القاحلة حيث كانت سيرة النبي ومهبط الوحي، حتى لو خربت الدنيا يوصي بالزرع.
وكما هو معلوم فالزراعة عمل يقوم أساسه على الأمل، وهذا الأمل هو عماد حياة أي فلاح مجد ونشيط، وهو ركن ثابت في نشوء وتطور الحضارات ما قبل التجارة والصناعة، وبتصوري فإن هذه المقولة الدينية التي ضاعت في ازدحام الخرافات والتضليل والتدليس تزيح الكثير من المقولات التي تؤكد على الأمل ومحارية اليأس والاستسلام، بما فيها المقولة السلطوية “إننا محكومون بالأمل” لصاحبها الكاتب المسرحي سعد الله ونوس.
إذا قامت الساعة؛ التي هي في التصورات الدينية إشارة للخراب والموت، وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها.. هذه المقولة بقيمتها الأخلاقية تصلح أن تصبح شعاراً اجتماعياً وسياسياً ودينياً في ظل هذا الموات السياسي والقيمي العام، بدلا من “أعدوا” وما يتبعها من دعوات تستعجل الهيمنة والسيطرة والتمكن أو الموت والخراب.
في إجازاتي إلى سوريا قبل الخراب كنت أفرغ وقتاً مهما للزراعة، لم أتوقف عن ذلك خلال وجودي هناك أيام الحرب، كنت أترك الأشجار الصغيرة الجاهزة للزراعة أمام منزلي، أدلّل عليها بالمجان، معنونا بالحديث النبوي المسند، ورغم كثرة السراقين و “البواقين” باستعدادهم الدنيء لسرقة حذاء قديم، إلا أن الأشجار الصغيرة تظل على حالها في منطقةٍ مصدر رزقها الأساس هو العمل الزراعي!
بل ذهبت في الأمر أبعد من ذلك، عندما تطوعت وقمت بزراعة بعض الأشجار في مساحة متاحة لأحد الجيران، وكاد الأمر أن يحدث مشكلة لولا “الموانة الاجتماعية” التي منعت حدوثها!
أما في سيرة النزوح، فقد أهمل الساكنون الجدد لبيوت القرية أشجار الحدائق المنزلية المثمرة، فيبست وماتت وصارت حطباً للكسالى، علما أنها أشجار فاكهة مجانية لذيذة، ويمكن أن تشكل مصدر رزق أيضا لوفرتها.. ” يكفي أن يبول المرء بجانبها لتحيا”.
خلال الفترة الماضية وفي ظل الوضع المأساوي الذي عاشه الناس تحت هيمنة الخراب الذي أحدثه “البراميلي”، تحولت مناطق شاسعة في سوريا إلى صحاري أو تكاد، رغم تاريخها الطويل مع الخصب، والأمر ليس بفعل الحرب فقط، بل بسبب العقول الصدئة، التي كانت جاهزة لـ “أعدوا” عوضا عن ” وازرعوا” وصارت سكرابا في ساحات “البتروحوريات” .
هذا مدخل سريع.. سيتبعه ما يمكن الحديث عنه وعمله لاحقاً، وأعاننا الله على تحمل تبعات الصدأ والسكراب.
المهمة ليست بالأمر اليسير، لكن بيدي فسائل كثيرة والساعة مازالت تقوم.. وسأزرعها.
Sorry Comments are closed