المثقفون السوريون والثورة

عبد الحميد الشدة13 يونيو 2019آخر تحديث :
المثقفون السوريون والثورة

بعد انطلاقة الثورة وبين ليلة وضحاها وجد السوريون أنفسهم أمام أسئلة كبيرة تتجاوز في تعقيداتها المواطن العادي لكنها تؤثر على حياته ومحيطه، كمؤيد للثورة أو كحيادي أو حتى كمعارض لها. الأحداث المأساوية التي حصلت ومسّت الجميع كان لها أسباب وواقعها يتطلب حدّاً أدنى من الإدراك لما يحصل. وكان من الطبيعي أن يلتفت الناس إلى النخبة في المجتمع منتظرين أجوبة أو تفسيراً لما يحصل.. فمن كانت يومها تلك النخبة؟

من جهة مؤيدي النظام كانت المسألة محسومة آلياً من خلال اصطفافهم مع النظام العسكري الطائفي القمعي وقائده الديكتاتور، وبالتالي “لا فكر ولا حوار ولامعرفة”. وأضاف النظام على الصورة بعض المثقفين المرتزقة اللبنانيين لتغطية ضعفه الفكري. المثقفون الطائفيون كانوا في موقف محرج لكنهم حسموه بسرعة بتركيز جهودهم على انتقاد الثورة والبحث عن عيوبها بل عن كل عيوب المجتمع المسلم السنّي حاضن الثورة الأساسي كذريعة لتغطية طائفيتهم المتعاطفة بنيوياً مع النظام الأسدي.. حالة لؤي حسين وأدونيس ليست الوحيدة.

كما أسلفت؛ التفت السوريون إلى من يستطيع أن يحمل صوتهم وأن يعبر عن الذي يحصل. وكان من الطبيعي انتظار مواقف الشيوخ والعلماء والمثقفين والأكاديميين والأدباء والفنانين وأيضاً كل من يستطيع صياغة جملة مفيدة على الفضائيات.

الجميع يعرف أن النظام الاستبدادي جعل الساحة السورية في حالة تصحر نخبوي وفكري وثقافي. ولتحقيق هدفه كان اتبع بالتوازي خطين: الأول هو القمع والإرهاب في إطار سياسته بقمع حرية التعبير والحريات العامة. والثاني كان باحتكار قطاع الفكر والثقافة وبإعطاء فرص المنح الدراسية لأتباعه ومؤيديه أولاً، جو الفساد والمحسوبيات زاد من سوء اللوحة.

في هذا الواقع يمكننا ملاحظة تيارين فكريين كانا موجودين على هامش الهيمنة البعثية والطائفية: الأول هو الإسلامي غير السياسي والثاني هو تيارات ماركسية شيوعية، وشكلا قطبين رئيسيين خرج منهما أكاديميون ومثقفون.

المناظرة التلفزيونية التي حصلت قبل الثورة بين الشيخ محمد رمضان البوطي وبين الأكاديمي الفيلسوف الشيوعي الطيب التيزيني تلخص الاهتمامات الفكرية السائدة؛ مناظرة شبيهة من ناحية الشكل والمضمون حصلت على قناة الجزيرة بين الشيخ يوسف القرضاوي وبين المفكر الشيوعي السوري جلال صادق العظم.

بعض المثقفين الإسلاميين مثل محمد حبش كان في داخل النظام وعضواً في مجلس الشعب، أما الأستاذ الجامعي المهندس محمد شحرور الذي يقدم نفسه كباحث إصلاحي إسلامي فلم يكن من النظام إنما كان هذا الأخير متسامحاً مع نشاطاته ومؤلفاته إلى درجة أنه كان يسمح له بتوزيع كتبه في مدخل الجامعة في دمشق.

بعد اندلاع الثورة كان مثيراً للملاحظة أن المثقّفَين الشيوعيين العظم والتيزيني كانا من المتعاطفين مع ثورة الشباب الذين كانت مظاهراتهم تنطلق من المساجد، بينما الشيخ العلامة الكبير البوطي اتخذ موقف العداء ضد هؤلاء الشباب والشحرور المصلح الإسلامي اتخذ موقف الحياد الأقرب إلى العداء للثورة، أما حبش الداعية الإسلامي فقد ترك النظام لكنه يتميز بمواقف رمادية وليس غريباً أن يعود إلى حضن النظام في حالة تغير الموازين.

عدد كبير من الذين سنحت لهم الفرصة بالتعلم والتثقف أثناء فترة حكم البعث كانوا من اليساريين، بعثيين وشيوعيين وقوميين، ومن الأقليات. أبناء الطبقات الوسطى والغنية من السنة كانوا حسب ما بدا لي أكثر اهتماماً بالأعمال التجارية أو بالدراسات العلمية كالطب والهندسة، على حساب العلوم الإجتماعية والإنسانية. وفئة أخرى توجهت إلى دراسة العلوم الشرعية الإسلامية.

كان خيار الانحياز إلى الثورة شيئاً طبيعياً لأن الذي قام بها هم من قلب هذا المجتمع وكان ضحايا الإجرام الأسدي من الأهل أو الأقرباء أو الجيران أو الحي أو القرية وكان من الطبيعي أن يؤيد المثقف هذا الحراك السلمي العفوي بداية. فيما بعد تعقدت المسألة بدخول المنهجيين السلفيين وبدء صراع إيديولوجي تجاوز مطالب الثوار الأوائل.

ورجوعاً إلى بدايات الثورة يتوجب علينا التوقف عند حالة التصحر والفقر الفكري التي أوصل النظام إليها المجتمع السوري. وهذه الحالة رافقت حالة تصحر في ميدان السياسة والقيادة والتنظيم السياسي في المجتمع السوري حيث كان يسود نوع من الأميّة في هذه المجالات. وفي غياب هذه القيادة البديلة وهذه النخبة الفعالة وجد الشباب أنفسهم كالأيتام مما ساعد في ولادة قيادات لم تكن عندها المؤهلات والكفاءات اللازمة لمواجهة دولة ذات قدرات جبارة. النخبة التي ذكرناها أعلاه كانت منقطعة عن هؤلاء الشباب وعاجزة عن تقديم حلول ولم يكن لديها قنوات تواصل. وكلما زادت درجة المأساة كانت تظهر علامات خيبة الأمل وحتى انعدام الثقة. بعض المثقفين الذين دخلوا الساحة السياسية وتصدروا المنابر مثل الأستاذ الجامعي برهان غليون والمعارض ميشيل كيلو والداعية الإسلامي المربي والخطيب معاذ الخطيب لعبوا برأيي دوراً سلبياً جداً في هذا المنحى، كان من الأفضل لهم وللثورة لو كانوا بقوا في دور الموجّه والمفكر. شخصيتان بقيتا في هذا الدور الأخر وهما الأديبان الإسلاميان زهير سالم ومجاهد ديرانية، لكن أثر دوريهما بقي محدوداً لأسباب عدة، منها حسب رأيي طرحهما التقليدي الذي لم يجذب الشباب.

عقبات كثيرة واجهت العلاقة بين المثقفين بأصنافهم وبين جيل الثورة؛ كيف لأشخاص تربوا في مدارس هذا النظام وتحت ظل قيوده وفي فساده أن يجدوا حلولاً مقنعة. كثير من المثقفين، خاصة اليساريين، تردد في وصف النظام بالطائفي، والبعض يعيش حتى هذا اليوم في عالم وردي من الوطنية الخيالية فيرفض رؤية هذا الواقع. سوء تقدير وسوء فهم يسودان في عالم المثقفين السوريين والنخبة، بعضهم وخاصة بعض المتشنجين الإيديولوجيين أو الطائفيين المتمكيجين هاجم جلال العظم بسبب كلامه عن “العلوية السياسية”، هذا التشنج زاد في الفجوة بين الثوار وبين طبقة من “المثقفين المترفين” الذين انزعجوا بداية الثورة لأن المظاهرات كانت تخرج من المساجد، وأعلن بعضهم مؤخراً عن تحفظه على وصف عبد الباسط ساروت بالبطل والشهيد والرمز.

الحاجة أمُّ الإختراع، وهذا ما يحصل مع جيل جديد اضطر للتأقلم مع واقع جديد؛ فجيل سوري جديد أجبرته المأساة على البحث بنفسه عن معنى كلمات ومصطلحات تخص ثورته ومأساته لإيجاد أجوبة وحلول لواقعه، واضطرته الظروف للهجرة وتعلم اللغات والإحتكاك بالثقافات الأخرى، أرى هنا وهناك فضولاً ثقافياً ومعرفياً وأرى شباباً يبحثون عن المعرفة ويكتبون ويعملون في مجالات هامة مثل الإعلام والتعليم.

وربما الأهم من هذا كله أن هذا الجيل بدأ يتذوق طعم الحرية التي هي البييئة الأصلح للمعرفة والثقافة.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل