تم طرح مسألة التدخل الأجنبي في سورية منذ السنة الأولى للثورة؛ وأول ما بدأ كان التدخل الإيراني عبر ميليشيات حزب الله ليزداد تصعيدا عبر إرسال الميليشيات الشيعية المتعددة الجنسيات ثم تلاه التدخل الروسي التدريجي عبر الدعم الدبلوماسي الدولي وعبر التدخل في السفارات السورية في الخارج مترافقا مع الدعم العسكري لينتهي بالتدخل العسكري المباشر في المعارك وعبر القواعد العسكرية وخاصة بالقصف الجوي للمدن ولمناطق الثوار، وباتت الشرطة العسكرية الروسية وبعض الوحدات تنتشر في عدة مناطق.
كان بعض المعارضين قد أمل تدخلاً غربياً مباشراً لإسقاط بشار الأسد، وكانت تركيا تحدثت عن إقامة منطقة آمنة على غرار الذي حصل في العراق بعد حرب الكويت لكن هذا لم يحصل لأنه لم يلق قبولاً أمريكياً.
خروقات النظام السوري لقوانين حقوق الإنسان خاصة معاهدات جنيف لم تكن مطروحة على الطاولة كعذر لتدخل دولي لأسباب سياسية أكثر منها قانونية، لكن بعد استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيماوية أصبح التدخل الدولي مشروعاً قانونيا ووافقت دول قوية مثل فرنسا على هذا التدخل، لكن الرئيس الأمريكي السابق أوباما فاجأ الجميع برفضه التدخل عسكرياً خلافاً لتصريحاته السابقة وتهديداته.
فيما بعد شكلت الولايات المتحدة تحالفا دوليا وتدخلت مباشرة بحرب ضد تنظيم الدولة، ورغم قضائها عليه لم تنسحب بل أبقت مع بعض حلفائها الغربيين قواعد عسكرية في شمال شرق سوريا كنقطة سيطرة وكمساعدة للميليشيات الكردية التي تحالفت معها في حرب تنظيم الدولة، وهذه الميلشيات تسيطر اليوم على جزء كبير من سوريا وخاصة على مناطق الجزيرة، ويبدو أن للأمريكان هدف آخر وهو منع الروس للتقدم في مناطق النفط الإستراتيجية حيث لم تتردد قواتها بقصف قافلة عسكرية روسية وإبادتها بالكامل.
دخول الجيش التركي في شمال سوريا لإخراج الميليشيات الكردية من بعض المناطق وللتنسيق مع الروس فيما سمي مناطق خفض التصعيد أضاف عاملاً جديداً في التدخل الخارجي. أما التدخل الإسرائيلي فهو حتى اليوم محصور في قصف جوي لبعض مواقع النظام ولمواقع للقوات الإيرانية ولحزب الله ويهدف بشكل أساسي إلى تحجيم سلاح الصواريخ الإيراني. وتدخل دول خليجية تم أساسا عبر تمويل الثائرين وعبر إرسال بعض الأسلحة.
لقد وجد بعض السوريين صعوبة في فهم امتناع الغرب، القوة الأهم في العالم وصاحب ثلاثة حقوق فيتو في مجلس الأمن، عن التدخل ضد نظام بشار، ونحن نعرف أن هذا الغرب يمتلك زمام الأمور في سياسة المجتمع الدولي وأن هذا الغرب يستطيع تمرير كل ما يريد في مجلس الأمن عندما تكون لديه الإرادة الكافية وأنه في أسوأ الأحوال يستطيع القفز فوق الأمم المتحدة وتجاوزها عندما يريد، وفي أكثر من مرة فعل هذا. وسأحاول في هذه الدراسة البحث عن الأسباب الرئيسية التي جعلت الغرب يمتنع عن التدخل العسكري لإسقاط نظام بشار الأسد.
هذه الأسباب كثيرة، منها القانونية الدستورية الداخلية ومنها ما يتعلق بالمصالح السياسية والإقتصادية الداخلية أو بالمصالح السياسية والإستراتيجية الخارجية. مع الإشارة إلى أن واقع الدول الغربية ليس واحداً لكنه يتقارب كثيراً مقابل القوى الدولية الأخرى.
أولاً: الظروف القانونية الدستورية: الدساتير الغربية كلها تعطي السلطة التنفيذية الحق لتقرير وتسيير القسم الأكبر من السياسة الخارجية ولأسباب تتعلق بالفاعلية وبسرعة القرار تعطيها هامشاً كبيراً في قرارات الحرب والدفاع. ويكون رئيس السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، هو القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وعموما جعلت هذه الدساتير تَدَخُّل السلطة التشريعية محدوداً في هذا المجال ويكون عادة في حق التصديق على الاتفاقيات وفي خطوط عريضة لبعض السياسات الخارجية والدفاعية وفي أمور استشارية ولجان مختصة إضافة إلى التأثير عبر التوميل والميزانية.
في الولايات المتحدة مرت تجاذبات السياسة الخارجية بين البرلمان والرئيس في مراحل مختلفة وكانت أحيانا غامضة ومتداخلة حيث كتب أحد المختصين “الكونجرس يعلن الحرب لكن الرئيس يقوم بالحرب بدون أن يبحث عن إعلانها. الرئيس يفاوض في المعاهدات لكن مجلس الشيوخ هو من له حق التصديق عليها”. لكن يمكننا القول إن الرئيس هو من يقود السياسة الخارجية الأمريكية وإنه هو من يرسم الخطوط العريضة لهذه السياسة. فمنذ عهد ريغان حصل توجه لزيادة سلطات الرئيس في ميدان السياسة الخارجية وفي الحرب وبلغت هذه الزيادة ذروتها في عهد بوش. وقد تابع أوباما في نفس الاتجاه لكنه حاول أكثر من سابقيه إبقاء هذه الهيمنة في إطار دستوري وقانوني.
أما في فرنسا وتحديداً في دستور الجمهورية الخامسة أي دستور العام 1958، فإن هذا الدستور أعطى صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية في مجال السياسة الخارجية ومجال الحرب.
باقي الدساتير الغربية تتراوح ما بين حلول النظامين الفرنسي والأمريكي، مثلا؛ النظام الإنكليزي لا يختلف كثيراً عن الفرنسي، فرئيس الوزراء يتمتع بصلاحيات واسعة في هذه المجالات وتزداد هذه الصلاحيات بكون رئيس الوزراء يتمتع بدعم الغالبية البرلمانية التي هي من حزبه. في حرب الخليج الأولى استطاع بلير إدخال بلده في حرب العراق رغم معارضة القسم الأكبر من البريطانيين للدخول في هذه الحرب.
ثانياً: من الناحية السياسية والإستراتيجية والاقتصادية لا توجد للدول الغربية عموما مصالح يمكن تسميتها بحيوية أو “من الدرجة الأولى” في سورية إن صح التعبير. فالنفط السوري محدود جداً مقارنة بدول أخرى ونظام الأسد لم يهدد في أية فترة من الفترات المصالح الغربية، بل على العكس كان متعاونا معها خاصة في لبنان وفي حرب الكويت حيث حارب الجيش العراقي في صف القوات الأمريكية. وكان النظام السوري متعاوناً مع الدول الغربية في ملفات الإرهاب، وبحكم علاقاته التاريخية مع كثير من التنظيمات المسلحة في المنطقة فقد كان مصدر معلومات وشريكاً مهماً.
نظام الأسد لم يهدد يوما مصالح الغرب في المنطقة وحربه ضد الثوار السوريين وضد المناطق السورية لا تؤثر على الغربيين، ولهذا لا يشعر الغربيون بحاجة إلى تغييره أو المساعدة على تغييره ولأسباب ثقافية وتاريخية سيجدون صعوبة في إقناع شعوبهم بالدخول في حرب لا مصلحة لهم فيها. هذه الحرب التي قد ينتج عنها مقتل جنود غربيين أو عمليات إرهابية ضد المدنيين الغربيين تنظمها إيران أو النظام أو حلفاؤهم اللبنانيون والعراقيون.
ولا ننسى خطر الاصطدام مع الروس عسكرياً وهو ليس مستحيلا في حالة نزاع، وربما يرى الغربيون أن سوريا ليست مهمة إلى درجة المخاطرة بالاصطدام مع الروس.
فيما يخص الملف الإسرائيلي هناك عدة ملاحظات؛ أولها أنه باعترافها هي وباعتراف النظام نفسه فإن الأسد هو الخيار الأنسب لها. خيار الغرب هو ذاك الأكثر مناسبة لإسرائيل ابنته وحليفته الأبدية ويصبح الجواب بديهياً. إسرائيل أعلنت نأيها عن الحرب الداخلية السورية وحيادها، على الأقل ظاهريا، وكان تدخلها محصوراً في جانب إنساني الطابع كمعالجة الجرحى وفي الحد من قوة إيران خاصة الصاروخية، ومن هنا كان من المنتظر أن تنسجم سياسة الغرب مع سياسة حليفته، أي في عدم التدخل المباشر.
هذا إضافة إلى أن الأسد وحلفاءه المحتلين دمروا قسماً كبيراً من العمران والبنية التحتية للاقتصاد والمجتمع السوري كله وهذا منطقياً يخدم المصلحة الإستراتيجية لإسرائيل التي بعتبرها الشعب السوري دائما دولة عدو.
أخيراً يجب الإشارة إلى خوف غربي من نظام جديد أو من حالة فوضى. تواجد القاعدة بشقيها ليس عاملاً مطمئناً بالنسبة للغرب وفي جميع الأحوال يجعل التدخل الغربي غير شعبي. ولا ننسى أن اليسار المتطرف في الدول الغربية هو في عمومه مؤيد للأسد بسبب علاقة هذا اليسار مع الاتحاد السوفييتي الشيوعي، واليمين المتطرف أيضاً متعاطف مع الأسد بسبب إعجاب هذا اليمين المتطرف بالديكتاتوريات، خاصة لو علمنا أن ضحايا هذا الديكتاتور السوري هم من الصنف الذي يكرهه هذا اليمين العنصري.
في النهاية نستنتج أن القوى الغربية ليس فقط لم تتدخل لإسقاط نظام الأسد بل إنها منعت انتصار المعارضة بحظرها وصول أسلحة نوعية لها مثل مضادات الطائرات. بل أنكى من ذلك، لقد تنازلت لإيران عن الملف السوري مقابل مصالح اقتصادية وإستراتيجية وتركت لها المجال مفتوحاً في سوريا وسمحت لها بكل التسهيلات اللوجستيكية كالمرور عبر العراق مثلاً. حساسية إسرائيل نحو اقتراب الميليشيات الإيرانية لا تغير شيئاً في المعادلة. حتى خروج إيران عسكرياً من سورية لن يغير هذه المعادلة وهناك اليوم حديث عن مقايضة مع الروس: إخراج إيران مقابل إبقاء الأسد. الغرب ليس راغبا بتغيير الأسد، لكن الغرب إنتهازي وديناميكي وذكي، اليوم الذي -لسبب أو لآخر- تتغير موازين القوى على الأرض فسيجد الحلول المناسبة للتأقلم مع الواقع الجديد، حتى لو بعدم وجود الأسد ونظامه.
عذراً التعليقات مغلقة