ربما؛ لولا اقتراب ذكرى هزيمة الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967 ما كانت لتحضر وجوه المقارنة والمقاربة بين الظواهر التي سبقت تلك الهزيمة المريرة، التي لحقت بنا ومكّنت إسرائيل من احتلال أراضٍ في أربع دول عربية، وبين ظواهر نشهدها اليوم مع تواتر قرع طبول حرب محتملة في المنطقة، إنْ في الخليج أو لبنان، بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل من جهة؛ وإيران وميليشياتها من جهة أخرى.
والبداية من التهديدات النارية التي أطلقها غير مسؤول إيراني، بأن أميركا سوف تنهار بضربة واحدة، كبرجي مركز التجارة العالمي، وبأن مواطنيها سوف يواجهون نطاقاً واسعاً من الأخطار التي لا يعرفونها، وبأن ثمة سلاحاً سرياً قادراً على إغراق البوارج الأميركية كافة! والتي تذكرنا بالتهديدات الصارخة والفارغة التي أطلقها زعماء عرب، عن سحق إسرائيل وإزالتها من الوجود في يوم وليلة، وبأن وجبة عشائهم، إنْ اندلعت الحرب، ستكون في تل أبيب، وأن مصير المستوطنين اليهود هو رميهم في البحر أو أن يعودوا من حيث أتوا!
صحيح أن ثمة فارقاً في المرجعية والشعارات الآيديولوجية بين التعبئة القومية لدى أنظمة الطوق العربية، والتعبئة الدينية المذهبية عند السلطة الإيرانية، وصحيح أن ثمة براغماتية لم تمتلكها تلك الأنظمة؛ لكنها متأصلة عند حكام طهران وغالباً ما تجنّبهم دفع الأمور إلى حدها الأقصى، لكن المشترك بينهما هو توسل الشعارات المضللة المبنية على تغييب العقل وعلى المبالغات الغوغائية المحفوفة بالعنتريات، وبقدرة فريدة على استسهال التضحية بحيوات الناس وقوداً للحروب.
وإذا كان من عوامل بررت لأنظمة الطوق العربية تصعيدها السياسي والعسكري ضد الوجود الصهيوني، وربما ساعدتها نسبياً على احتواء التداعيات المباشرة لهزيمة «حزيران» عام 1967؛ منها مناخات الحرب الباردة وما قدمه الاتحاد السوفياتي من دعم نوعي وقتئذٍ، ثم شدة المظالم التي يعاني منها الفلسطينيون وما تثيره من تعاطف شعبي، فضلاً عن نجاح تلك الأنظمة في مغازلة قطاعات واسعة من المحرومين، عبر ما اتخذته من قرارات التأميم والإصلاح الزراعي… فإنه ليس لدى حكام طهران اليوم ما يبرر لهم عنجهيتهم المريبة، بينما يئن شعبهم تحت وطأة أزمة اقتصادية عميقة وتفاقم غير مسبوق لمشكلاته المعيشية، ليس فقط جراء تشديد العقوبات الغربية؛ وإنما الأهم بسبب تنامي حالات الفساد وهدر الثروات العامة على مشاريع تعزيز النفوذ الإقليمي، والأسوأ أن هؤلاء الحكام ربما يعرفون أكثر من غيرهم أن استفزازاتهم وتدخلاتهم الفظة في شؤون الآخرين، جعلتهم شبه معزولين في حربهم العتيدة… وهو أمر ليس قليل الأهمية؛ أن يعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بلاده لن تلعب دور إطفائي لحرائق المنطقة، أو حين تعم المظاهرات الشعبية غير مدينة عراقية رافضة توريط العراق في نزاعات إيران مع الغرب.
لقد قالت أحوال مجتمعاتنا البائسة وهزائمها المتعددة، وأكثرها إيلاماً هزيمة «حزيران»، كلمتها بحق هذه العقلية، وأظهرت أن قوة الدول ومكانتها العالمية لا تقاس فقط بما تملكه من ترسانات عسكرية وأدوات قهر وإرهاب؛ بل بمستوى التقدم الحضاري والتنموي الذي تحرزه على الصعد كافة؛ الثقافية والعلمية والاقتصادية والسياسية، ولعل نظرة موضوعية إلى الحصاد المُرّ للتعبئة الآيديولوجية ولشعارات المواجهة الطنانة والتغني بالحروب ضد إسرائيل وأميركا، تكفي لتؤكد عياناً أنها لم تكن أكثر من عناوين لتعزيز تسلط الحكام وقدراتهم على قهر شعوبهم وحماية امتيازاتهم، والأسوأ لخداع المجتمع بفرص تحقيق انتصارات عبر اقتناء مزيد من الأسلحة، التي غالباً ما تم استعمالها لضبط الأوضاع الداخلية وتحسين النفوذ الإقليمي، أكثر مما استخدمت في خنادق وساحات قتال أميركا وإسرائيل، الأمر الذي أفضى إلى عسكرة الحياة وتخريب البنية الوطنية، وتدمير خلايا النمو والتجدد في هذه المجتمعات وتحويلها إلى مجتمعات ضعيفة ومنهكة تتآكل بفعل أزمات متراكبة، جراء امتصاص طاقاتها في معارك منهكة.
واللافت أنه، ومثلما وفّرت هزيمة «حزيران» حافزاً للنخب العربية لمراجعة واقعهم نقدياً وقراءة أسباب ضعفهم وعجزهم، خصوصاً استخلاص الدرس الأهم بأن السبب الرئيسي للهزيمة ليس فقط التفوق الصهيوني المدعوم غربياً، بل هشاشة البيت الداخلي الذي نخره الفساد والقمع والاضطهاد… يصح القول إن الحرب الإيرانية – العراقية وتداعياتها على أوضاع طهران الداخلية، منحت بلا شك النخب الإيرانية حافزاً مشابهاً لمراجعة واقعهم وسياساتهم وبرامجهم، والأهم استخلاص وتثبيت الدرس ذاته.
وأيضاً، مثلما قطع شعار «الكفاح المسلح» الذي رفعته المقاومة الفلسطينية، وتداعيات ما عرفت بـ«معركة الكرامة» الشهيرة عام 1968، الطريق على المجتمعات العربية لتمثل دروس هزيمة «حزيران»، ومنح الأنظمة العربية فرصة لم تضيعها لإعادة الروح للخطاب الآيديولوجي العتيق، ومحاصرة دعاة أولوية التنمية الديمقراطية وعزلهم، فإن حرب الخليج الثانية ونتائج الاحتلال الأميركي للعراق وفّرا الفرصة لحكام طهران كي يحاصروا ويجهضوا أي محاولة جادة لنقد السياسات التدخّلية التي رافقت قيام جمهوريتهم الإسلامية، مما أعاد الروح لنهجهم المتمادي في تصدير «ثورتهم» وفتح شهيتهم لتوسيع نفوذهم الإقليمي، متوسلين أدوات ميليشياوية تفيض بالتعبئة المذهبية البغيضة، لتصل الأمور إلى الحد الذي سمح لهم بإطلاق تصريحات مستفزة عن أنهم باتوا يتحكمون في مصير أربع عواصم عربية.
دار الزمن دورته؛ وها هو حراك المجتمعات العربية التي عانت الأمرّين؛ قهراً وفقراً، يتصاعد من أجل حريتها وحقوقها، على أمل إعادة الأمور إلى نصابها ومنح التنمية الداخلية الأولوية، في مواجهة الأسطوانة المشروخة عن أولوية مواجهة إسرائيل وأميركا، وأيضاً ها هو حراك المجتمع الإيراني يتصاعد يوماً بعد يوم، احتجاجاً على أوضاع حياتية ومعيشية لم تعدْ تطاق، ورفضاً لتهميش مكانته الحضارية وهدر ثرواته في معارك النفوذ الخارجي.
ربما يستفيق الإيرانيون على هزيمة أكثر قسوة من هزيمة «حزيران»، وربما ينجح حكام طهران، مرة أخرى، في نزع فتيل التوتر الراهن، وينقذون رؤوسهم وفسادهم وامتيازاتهم، تاركين شعبهم يئن تحت وطأة مزيد من المعاناة والعزلة والحصار… لكن إلى متى؟ وهل هو قدر الإيرانيين وشعوب الإقليم العيش في دوامة هذا المناخ من الخوف والمعاناة والآلام؟ وأليس ثمة علاج لهذا الإدمان على العقلية التدخّلية المريضة نفسها وعنفها وقهرها، وعلى تشغيل الأسطوانة العدوانية ذاتها، قبل أن يأخذ المنطقة إلى ما يشبه الخروج من التاريخ؟
Sorry Comments are closed