وجُـوه..
الشّاعر مصطفى حزوري.. كلّما سقطَ تُنهضهُ قصائده
بقلم: سليمان نحيلي
يحثّكَ الشاعر السوري الشاب مصطفى حزّوري منذ عنوان مخطوطته (أرى صوتها حافياً من بعيد) على متابعة القراءة والولوج في عوالمه الشعرية، فهو منذ البداية يبدو شاعراً حسّاساً وعاشقاً ينزعُ إلى الاختلاف وكسر السائد، يشغله وطنه وجراحة، كما تشغله حبيبته التي كانت إحدى أهم خساراته إلى جانب الوطن بعد أن قذفته الحرب إلى المنفى.
فعندما انطلق صوت الحرية في وطنه في آذار من العام 2011 ،كان الشاعر لمّا يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد، يشغله ككل من في سنه عشقه ومواجده، إلا أن تداعيات الثورة، والحرب التي شنّها الطغاة في وطنه على شعبه وأهله جعلته ينحاز لجراح وآلام الوطن حيث صُقلت تجربته وتعززت تحت الحرب، ولذلك فالحرب واضحة الظهور والتأثير في تجربته الإبداعية، حتى توزّعت روحه بين الحب والحرب، يقول:
هو الحبُّ :شرشفُ ماءٍ وثيرٍ
يزمّلُ كانونَ إذ يختبئْ
هي الحربُ: نصلُ دمٍ يتخثّر فيه أنينُ الجحيمِ الصّدِئْ
وبينهما كنتُ: نصفاً يحاربُ
نصفاً يُحبُّ.. ولاينكفئْ
مرايا الحب.. مرايا الغياب والحرب
في قصائد الحزوري تتردد مفردة المرايا والحديث عنها كثيراً، ولكن الشاعر لايبدو أنه قصد بها مجرّد ذلك المُقتنى الشخصي، ذلك المسطّح البلوري المصقول الذي تنعكس عليه صورة الأشياء، إنها ترمز إلى قصائده التي توزعت بين الحرب والحب ،فكل قصيدة مرآة ،لما عاشه من خوف وقلق ودمار وموت واعتقال، وفقر وجوع وحصار.
في قصيدته (مرآة نهلة) جارته ومحبوبته في سنوات طفولته، والتي نزحت تحت وطأة الحرب وما أكثرَ “النّهلات” في الحرب، ولم ترجع كما لم ترجع له طفولته، شباك “نهلاه” كان ما زال مغلقاً لم يفتح، ومازالت الحرب دائرةً بعد، يقول:
شبّاك «نهلة» لم يُفتّح منذ أكثر من نزوحٍ ..
كيف أكتبُ أغنياتي الآن
أذكر أنها قالت: سأرجعُ
حينما تتضاءَل الرؤيا بعين الحربِ
سوف أُقشّر الأقمار فوق سطوحنا.. وسَ …
ولكن كان للحرب رأيٌ آخر، فابتعد الطيف الأول لحبه، فنهضت قصيدته كي تعكس حجم الألم لديه وليُظهرَ أنه سينهض من جراحه وانكساراته أقوى من ذي قبل، مكملاً طريق الحب والخير الذي انحاز إليه:
يجبلُ الشعراء طينَ الذكريات بحبرهم ويرقصونَ جراحهم
يا الْ كنتِني يوماً
ترى كم قبلةٍ زرع الذي تهوينه في حقلكِ الظامي إلي؟!
غداً أغني عندما سأراكما تتخاصران وترقصان
غداً أُغنّي
حدّ البكاء..
وهكذا هم الشعراء كلما سقطوا ستنهضهم قصائدهم
ليمضوا منتشينَ بذي الجروح..
وفي مرايا الآخرين الغائبين أيضاُ نقرأ كيف عصفت الحرب بالأهل، فشردتهم في صحارى الغياب حتى بات لقاؤهم كالسراب، يرسم هذه الحالة بشفافية مؤثرة فيقول:
فُرادى يجيئونَ
وحدكَ تجمعهم كالمنافي
فيمضونَ وهْمَا
تقول: يعودونَ حين السرابُ يغافل صورةَ ماءٍ وتظْمَا…
أما مراياه التي شرّعها على مدينته الجريحة حلب، فإنها ترصد ما حلّ بحلب من قصف ودمار على أيدي أعداء الحرية والكرامة، لنقرأ ما تقوله مرآته:
مثلما يتفتّح في الليل نهدا مراهقةٍ
تتفتّح فيه جراح المدينة
لم يكن في يديه سوى ساعةٍ عضّتِ الحرب كل عقاربها
فاستدار إلى زمنٍ ناضحٍ في العروق
وهو شاخصٌ في مراياه يتأمل الشقوق..
الحبّ في مواجهة الحرب الجمال في مواجهة القبح
وإزاء الحرب العاصفة التي التهمت البشر والحجر والشجر في وطنه، إزاء هذا الحقد والكره وإلغاء وإفناء شعبه، ينهض الحب/الجمال لدى الشاعر في وجه الحرب/القبح كردّ فعل، فحين يستشري الكره بين البشر يمسي الحبّ حاجة ماسة:
في الليل تخلقها عمرينِ من ألمِك
لابدّ منها هي الأنثى رغيف دمِكْ
لابدّ منها لأنّ العمر في قلق
تسعى أناملُه البيضا إلى حلمِك ..
ولعل ّ من أبرز مايميز الشاعر مصطفى رصدهِ تلك التفاصيل السرية المسكوت عنها في أغوار النفس البشرية، الأمر الذي يدلّ على مدى إحساسه بالآخرين وتمثُّله حالاتهم ومشاركته مشاعرهم ومعاناتهم، وكمثالٍ نسوقُ تصويره حالة الأرامل اللواتي فقدن أزواجهنّ في الحرب وإحساسهن بالفراغ العاطفي وجوعهنّ وشهوتهنّ لأزواجهن، يقول:
وطن..
قلْ: رغيفٌ يجوع
وأراملُ يحملنَ عمراً من الشهوات إلى
رجلٍ غابَ فيه الكفن..
كما تبرز لدى الحزوري القدرة على الخروج عن السائد والمألوف في استخدامه التراكيب والجمل الشعرية كقوله (البواخر قد عُلّقت في مدى ناظريه)، فالتعبير السائد المألوف هو أن يعلق الناظران بالبواخر، ولكن الشاعر بعكسهِ هذه الحالة حقق انقلاباً في التركيب أعطى الصورة حركيةً ودراميةًّ تتواشج مع أمواج البحر الذي يجلس الشاعر على شاطئه، يرقب غياب البواخر على مدّ النظر.
كما امتاز الشاعر بكتابة القصة الشعرية، وقد وردت هذه القصة في قصيدة (ليس غير صدى الغريبة)، حيث تظهر مقدرته على سرد الأحداث وعلى إدارة الحوار شعرياً، كما يتجلى نجاحه في رسم مشاهد تمثيلية تتوافر فيها كل عناصر المشهد السينمائي أو التلفزيوني كما في المشهد الآتي، حيث يدون التالي:
المشهد :خارجي
والمكان : شاطئ البحر
والزمان : الغروب
لنتابع حضور المشهد معاً:
كان يفترشُ الصخرَ
والأفقُ يرنو إليه
ويلقي عليه غروبه..
بغتةً نَهرتْ سمعَه امرأةٌ ..أنتَ!؟
وتلفّتَ
حين رآها استدار إلى البحرِ
قال:
– المنافي التي لا نسيرٌ إليها
تسيرُ إلينا، وأنتِ كذلك منفى
= احكِ لي عنكَ .. كم قد كُسرتَ
– قليلاً.. كثيراً .. ولكنني لم أزل واقفاً ..
ولقد نوّع الشاعر مصطفى حزوري بين الأشكال الشعرية، فتنقّل بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، كما زاوجَ أحياناً في القصيدة الواحدة بين الإيقاع العمودي والتفعيلة.
كما امتاز بصوره المدهشة كقوله:
قلتُ أيا امرأتي فتّشي عن ذراعيّ
إني أضعتهما منذ شهرٍ على خصركِ المرمري
كما ينثر الشاعر بعض الأفكار الفلسفية عن بعض المفاهيم التي تناولها في شعره، كما في المقاطع التالية:
– الشعر ليس سوى دروةٍ تتلاقى بها كل هذه الذوات لتتلو ترنيمةً مُسكرة.
– نصف عمر الحياة يسير بعكس اتجاه المواعيد
ولذا قد تُسمى مصادفةٌ ما .. هوامشَ تنسلُّ من دفتر الغيب من عبثٍ برؤانا اختلط.
لطالما حلمَ قبل مغادرة وطنه إلى فرنسا، أن يحظى برؤية أمه ووداعها، لكن الطريق إليها في حلب الشرقية كان محفوفاً بالبراميل المتفجرة والموت الذي يلقيه الطغاة على رؤوس المدنيين، فخاب حلمه ولم يلتقِ أمه، يقول:
قد خبتَ، خانتكَ في الرؤيا التآويلُ
فهل سيكفي لدمع الأرض منديلُ
وكنتَ تحلمُ في أُمٍّ تعانقها
إذا دخلتَ، فضمّتكً البراميلُ.
* * *
الشاعر السوري مصطفى حزوري في سطور:
ولد الشاعر في مدينة حلب في العام 1994
لم يكمل دراسة اللغة العربية وآدابها في جامعة حلب نظراً لمواقفه المعارضة للنظام ، فترك جامعته خوفاً من الاعتقال.
غادر مدينته حلب لاجئاً إلى تركيا وبعدها إلى فرنسا.
نال جوائز محلية منها (الجمعية العربية للآداب والفنون).
لم يطبع له حتى الآن، وله مخطوط بعنوان (أرى صوتها حافياً من بعيد).
يكتب وينشر نتاجه الأدبي والصحفي في الدوريات العربية والمواقع الالكترونية.
Sorry Comments are closed