لم تكن إدلب تعرف أنها ستُقصف بالبراميل المتفجرة ردّاً على رمي أهلها “القائد الخالد” بالبندورة ورشقه بالأحذية منذ أربعة عقود خلت!.
كان ذلك بداية العام 1971، حينما زار حافظ الأسد (رئيس الوزراء الذي قاد انقلاباً سمّاه الحركة التصحيحية آنذاك) إدلب ضمن جولات قادته إلى المحافظات السورية بغية التسويق لانقلابه وتجميله في عيون السوريين، فما كان من الأدالبة إلا أن استقبلوا الانقلابي الذي خلع رفاق دربه بالبندورة والأحذية وما توفّر من أدوات إهانة ووسائل تحقير.
ولأنه لم يكن رئيساً ولا رجل دولة، أسرّها حافظ في نفسه، لتتوالى فصول نكبة إدلب تباعاً، منذ أن استتبّ الأمر للأسد الأب، وعُيّن رئيساً مطلقاً لسوريا في آذار 1971 وحتى وفاته في العاشر من حزيران عام 2000.
عاقب حافظ الأسد إدلب بتهميشها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً… فحرمها من الطرق الرئيسة (أتوستراد حلب دمشق، وأتوستراد حلب اللاذقية لا يمران بمدينة إدلب بل إلى الشرق منها بنحو 20 كم)، كما كانت خارج خارطة التنمية الاجتماعية، ولم تحظ بالدعم الثقافي على الرغم من كونها خزاناً حضارياً هائلاً، وعندما أراد نظام الأسد الإضاءة عليها، زادها تهميشاً من خلال “مهرجان المدن المنسية” الذي انطلق عام 1997، مضيفاً مزيداً من الغلالات والغبار على جدران الأوابد المهملة التي تضم مدناً وقرىً تمثل حضارات عصور وحكايات أمم مرت من هناك أو بحثت عن استقرار وتمكين، وبدل أن يكون المهرجان تثقيفياً تعريفياً تنفذ منه إدلب إلى الفضاء العالمي، انسرب في حمّى الأسواق والاستهلاك والحفلات الشعبية، منزوياً في محلية لم يُرد له أن يتجاوزها حتى إلى محافظات الجوار!.
وتأسيساً على ما سلف، وغيره كثير، كان من الطبيعي أن تنتفض إدلب مع أول احتمال، على الرغم من أنها ذاقت مرارات حقبة الثمانينات والمجازر الوحشية التي ارتكبها نظام الأسد الأب وقتها بذريعة محاربة “الإخوان المسلمين”. إلا أن وحشية الأسد كلها وسياسات تدجين الأجيال وتعبئتهم في صفوف منظماته، لم تشكّل سوى طبقة رقيقة على الوجدان الإدلبي الذي أفاق مع أول نسمة حرية هبت، فلم ترهب جسر الشغور من ذاكرة الثمانينات ولم تستعد المحاكم والإعدامات الميدانية وهدم البيوت على رؤوس أصحابها… وكذا كفرنبل وسراقب وكثير من مدن وقرى إدلب، بل استجابت لنداء أعمق في الذاكرة والوجدان، نداء فطري وحضاري راكمته الحضارات المتعاقبة والحس الإنساني السليم، فهبَّت عواصف إدلب الثورية في ربيع آذار، لتصير لاحقاً الملاذ والموئل والحصن الأخير للثورة والثوار.
ومع طيّ صفحات من كتاب الثورة، ولو مؤقتاً، في أماكن شتى من سوريا نتيجة تضافر وحشيات الغزاة والمستبد الأجير، بقي كتاب إدلب مفتوحاً على الكفاح والتأويلات والمُخرجات، وهناك يعاند أكثر من ثلاثة ملايين إنسان الأقدار التي يريد أن يكتبها عليهم “ضامنون” متحيزون لمصالحهم، ولاعبون ليسوا على دراية أو عناية بالأرض ومن عليها، بقدر ما هم معنيون بهذه الرقعة من الأرض كساحة مكاسرة ونطاح!.
تصارع إدلب داخلياً وخارجياً وتكابد تحديات تكفي لإسقاط دول وربما محوها، مستعينة بزاد لا ينضب من صبر وأمل، وتوفّر أسباب الحياة في مواجهة الموت الذي يهطل من السماء وينبع من الأرض، فهي على كل ما بها تنتصر لثورة السودانيين والجزائريين، وتجد أمكنة شاغرة على جدرانها وكذلك على صفحات الضمائر لكتابة أمجاد الآخرين، شركاء التحرر النازعين إلى الكرامة، وكأنها قد أصبحت تصنّع أبجديات الثورة وتعلّم فنون الثبات للراغبين بالموت أو الحياة واقفين.
وبناء على هذا التاريخ الموغل في العناد والانحياز للكرامة، تبدو النقاط العسكرية التركية كمن يحتمي بإدلب لا العكس، فهي لم تخسر من عديدها ولا عتادها، في حين يقدّم أهل إدلب النذور كل يوم على مذبح الكرامة والتحرر، مبدّدين أوهام نظام الأسد وإيران، ومن خلفهما روسيا التي خسرت كل رهاناتها على استسلام إدلب أو سقوطها في هاوية اليأس وسلوك “الطرق الآمنة” التي ظلت خاوية من أقدام العائدين إلى “حضن الوطن”.
وإنْ كان البعض اختاروا الاستقواء بمظلومية تاريخية حقيقية أو مزعومة، وآخرون اختاروا التقوقع في كهف الطائفية أو المناطقية… لاستجداء دعم اللاعبين الدوليين والإقليميين، أو للمضيّ قدماً في طريق السلامة، فإن إدلب كانت أرضاً وسقفاً للجميع.. صحيحٌ إنها لم تكن القصر المنيف، ولكنها كانت الكوخ الذي تخفق الأرواح ورايات الكرامة فيه. وعلى قدر عنادها وصبرها سيكون طريقها طويلاً، ولكنه طريقٌ سيُسمى في كتب التاريخ: طريقَ إدلب، عليه سارت جحافل الغزاة والمتسلقون والغرباء… ولكن لم ولن يصل إلا منتهجو الحقيقة ودعاة الحق.
عذراً التعليقات مغلقة