وجُـوه..
الشاعر أديب حسن محمد.. يهجّي البلاد لكي لاتموت
بقلم: سليمان نحيلي
يمتلك الشاعر السوري أديب حسن محمد حساسية مفرطة في تناول موضوعاته ذات الهمّ الخاص والعام على حدّ سواء، مستنداً على شاعرية عاليةٍ، ولغةٍ اندياحية آسرة، وهو مؤمنٌ بأنّ القصيدة كي تتحلى بالقدرة على الجذب فعلى الشاعر أن يخاطب من خلالها المخفي والكامن والمتواري واللائذ في زوايا الروح لدى المتلقي.
والشعر لدى شاعرنا موقفٌ من العالم، ونوع من الرفض للواقع تمهيداً للانقلاب عليه، وبالتالي فهو على صعيد الموضوعات، شغله الجرح السوري وهموم شعبه الذي انتفض ضد الاستبداد مطالباً بالحرية والكرامة، وقد آلمه ما حلّ بوطنه وشعبه من ردة فعل الطغاة الذين شنّوا حرباً دمروا البلاد ونكبوها، فقتلوا وشرّدوا واعتقلوا، يقول والألم يفتك به لما حلّ بوطنه:
البلاد ُالتي تؤرّخ النكبات
التي حمّلتها الحياة إلى سكّان الطابق السفلي لها
البلاد التي سُوّيتْ بالأرض قبل الأوان
ففاحت روائح الطينِ المدمّى والسّهول المحروقة
وصليل معدن اليقين الفاتكِ
الذي ينقل الأرواحَ إلى الجانبِ الآخرِ من هذه اللعبةِ الحمقاء
تلكَ يا إلهي بلادي..
وتمتاز قصيدة أديب حسن بقوة وعمق التأثير في المتلقي، وهذا ناجمٌ عن براعته في تشكيل الأجواء الخاصة بقصيدته معتمداً على الإيحاء والتجسيد المشهدي لمقاطعهِ الشعرية، إضافةً لعاطفةٍ صادقة، بحيث ينقل القارئَ ليعيش معه أجواء القصيدة مشخّصاً كل تفاصيلها، فيجعله يحبّ حزنه، وربما وفياً له، ولعلّ هذا التأثير يزداد غوراً في نفس المتلقي حين ينسج قصيدته من أوجاع وطنه وجراحات شعبه:
وإذن أنا حزينٌ يا بلادي
حزينٌ بما يكفي لأستبدلَ كلّ جبلٍ بتنهيدة
وكلَّ نهرٍ بجرحٍ طويل
وكلَّ زهرةٍ في البرّيّةِ بفكرةٍ مقتولة
وإذن أنا حزينٌ يابلادي
حزينٌ عليّ وعلى البلاد التي خلقْتها على شاكلتي
عاريةً ومكشوفةً وقابلةً للقنص والصّدأْ ..
وما دمتُ أتحدث في هذه الميزة لا يمكنني تجاوز قصيدته اللافتة «لا أُشبه نفسي» التي ينقل بها القارئ إلى العالم السفلي، عالم القبور، كعالمٍ آخر معاش زاخر بالصمت والصدق ووحدة اللون في مقابل الحياة فوق الأرض التي تعجّ بالفساد والحروب والنفاق، حيث تظهر مقدرة الشاعر على رسم وتشكيل عالم الموت والقبور والعلاقات بين سكانه بشكل درامي فريد وعميق التأثير، تتخلله مقدمات فلسفية جمّة، بحيث يكتشف القارئ نظرة الشاعر للموت وفلسفته الخاصة فيه.
فالموت حسب رؤية أديب حسن «يحقق المساواة بين البشر جميعاً»، تلك المساواة المفقودة في عالم الأحياء، ففي حضرة الموت تُهدر الألقاب والصفات والمقامات، يتساوى الغني بالفقير، والقوي بالضعيف، والحاكم بالمحكوم:
الصّمتُ ديانتنا الآن
تَوحَّدنا في آخرة الأرض
في الموت يغيبُ التّلفيقُ
تتوحّد كلّ الألوان ..
والموت لديه حريةٌ مطلقةٌ، وانعتاقٌ كاملٌ من الخوف الذي كان يجثم على قلوب الأحياء من قبل سلطات القمع والوصاية وهو تجاوزٌ لكلّ الموانع والعقبات والمحبطات:
في الموت يقدرُ واحدنا
أنْ يشتمَ دون الخشيةِ
من ساطورٍ أو معتقلٍ أو تهجير
مستويات العراء لدى أديب حسن محمد
تحتل حالة الشعور بالعراء (الوحدة) مكانةً بارزةً وراسخةً في تجربة الشاعر، وخاصةً في مجموعتيه «ملك العراء » و «لا أُشبهني»، حيث تظهر هذه الحالة مكثّفة تكتمن على طاقةٍ شعوريةٍ هائلةٍ وأجواء وتشكيلاتٍ مظلمة، أسستها في نفس الشاعر الانكسارات والمعاناة من الواقع المعاش الخاص والعام، ترفدها تداعيات الذكريات والإحساس بالحزن الذي يصل أحياناً حد اليأس، وأزعمُ أنه يمكن للقارئ تلمّس ثلاثة مستويات للعراء في تجربة أديب حسن، أتتبّع بشأنها المسار الزمني لتشكّلها.
فعلى المستوى الذاتي تتبلور هذه الحالة بشكلٍ حادٍ في مجموعته «ملك العراء» الصادرة في العام 2003، وهي قصيدة واحدة طويلة اشتغل فيها الشاعر على السيرة الذاتية ذات الخصوصية الشديدة، المتكئة على التّدفق الذكرياتي للشاعر،رحيث تتشكل حالة العراء والوحدة والغربة لديه منذ الولادة أو بالأحرى ولدت معه، وذلك بموت أمه عند ولادته، حيث خلقت هذه الحادثة لديه – عند بلوغه درجة الوعي – إحساساً بأنّ موتها كان بمثابة ثمنٍ لحياته أو بقائه حيّاً، بل ربما رشح في نفسه شعور بالذنب تجاهها، ها هو يعبر عن ذلك بمشهدٍ مؤثر للغاية:
يُروى بأنّي لم أكن
وبأنّ والدتي قضتْ
في الحلمِ أشهُرها العجاف
ولمْ تَرَ قدّاسَ فلذتها الذبيحة يقترب…
ثم يزداد الشعور الحاد بالوحدة حين يكبر، وحينَ (أصدقاءٌ يغادرون إلى المنافي)، ويتركونه وحيداً شريداً، (وأنا المسجّل في التّقاويم الشريدة/ شارعاً متفرعا من عزلتي).
ولذلك حينما بلغ عمرَ الحبرِ يشرع بكتابة الأغاني الحزينات كشجن نايٍ، يضيع صداها في الهواء فيردّد (مازلتُ أحتفن الهواء/ أقول أني مالكُ الحزن الوحيد وصولجاني قصب).
ثم يتبدّى العراء أكثر صعوبة وشمولاً على مستوى الهوية تبعاً لقوميته الكردية، وربما بدأ هذا العراء وهذه الغربة بالتشكل لديه منذ سنيّ الدراسة الأولى وتعمّق أكثر عندما كتب الشعر، ومحصول ذلك أنّ السلطات المستبدة في وطنه منعت المدارس والكتب باللغة الكردية، بل منعت حتى التحدث فيها في الأماكن الرسمية، وعاملتهم معاملة الأجانب، لا معاملة المواطنين الراسخي الوجود على الأرض السورية، والذين يربطهم بباقي القوميات الموجودة عليها تاريخ مشترك طويل، ولذلك كان الشاعر يفكّر ويتحدث بلغته الأم ويجبر على التعلّم والكتابة باللغة العربية، هذا الواقع شكّل لديه ما يسمى «غربة الهوية» ولذلك يقول:
يروونَ أني لم أكن/ وأنّ لي ملْك َ العراء/ وأنّ دمعي أجنبيّ
لايجاري دمعهم/ وبأنني مثل الغريب/ عليَّ حزمُ حقيبتي/ ومصيبتي أني جديرٌ بالعدم..
ويشكل المنفى بالمعنى المكاني المستوى الثالث للعراء عند أديب الذي اضطرته الحرب العاصغة بوطنه سوريا إلى مغادرته قسرياً هرباً من ويلات الحرب، ليقاسي عراء الغربة ووحدتها ووحشتها مكتفياً بنار الحنين فيقول:
يا تاركَ الدار من يرثي لدمعتها
قهر البيوت إذا كانت بهجرانِ..
وعند هذا المستوى تمسي الغربة والوحدة بالنسبة لديه أفدح من الموت، فيقول:
يا نخلُ إنّ حياتنا في غربةٍ
أَشدُّ من جبّانة الأمواتِ
أو قوله:
يأسي أراهُ .. بلا نارٍ شوى كبدي
وأصعب ُ الموت .. أن تحيا بلا أحدِ
وهذا المستوى ظهر في مجموعته «لا أُشبهني» الصادرة في العام 2018 .
وما يلفت النظر في تجربة الشاعر أديب حسن اشتغاله على استحضار شخصيات مشهورة، ذات رمزيةٍ أو مدلولٍ، وتوظيفها في قصيدته نظراً لوجود مُعطى ما أو قاسماً مشتركاً بين الشخصية وبين حالة الشاعر، وذلك على سبيل المقابلة بهدف إبراز واقعٍ أو صورةٍ أو حالةٍ أو حقيقةٍ أونقيضها، كما حصل عند استحضار شخصية الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، فأجرى مقابلةً بين عصره وعصر الشاعر، ليخلص في النتيجة إلى أنّ عصر أبي سلمى بالرغم من جاهليته، أكثر أخلاقاً ورحمةً وأماناً وأقلّ غربةً من عصر الشاعر الذي يدين أهله بالديانات التوحيدية القائمة على المحبة والعدل والمساواة والتسامح، يقول:
«سئمتُ الحياةَ» يقول زهيرٌ
ويطفئ في الجاهلية نور الأملْ
فكيف إذا مرّغته المنافي
بوحلِ الغيابِ
وكيف إذا جرّدوهُ رويداً .. رويداً
من الانتماء لأيّ صعيد
وكيف إذا حاصرتهُ جيوشُ الأشاوسِ
أو أَسقطته فتاوى الإمام …
الولادة من اليأس وصحوة العنقاء
في مجموعته «لا أُشبهني» يحصي القارئ ورود مفردة اليأس أكثر من اثنتي عشرة مرة، مما يعطي انطباعاً بسوداوية الجو العام للمجموعة وانحيازها نحو اليأس، (أُحاول تفسير الليل بما أُوتيت ُ من اليأس)، (أدمنتُ يأسي)، وغير ذلك.
وبتتبع سياق النصوص حتى النهاية يقع القارئ على أن الشاعر لا يرمي من وراء ذلك بثّ روح اليأس والتشاؤم والانهزام، إنما يقوم بتصويرِ واقع وطنه الذي دمرته الحروب وهجّرت أهله، لأنك ما تلبث أن ترى الأمل ينبعث من القصيدة كما تنهض العنقاء من تحت الرماد، يقول:
الآن وبعد جلوسِ الموتِ قريباً مني
أجهشُ بالمرثيةِ
أقرأُ في قلب العتمة حروف النّور
ومعنى الحرية في الحبس..
ولعلّه لا يخفى على القارئ دأبُ الشاعر المبدع على التجريب سواء على صعيد الشكل الشعري، حيث كتب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، فأبدع، فهو منحازٌ لشعرية القصيدة أكثر من انحيازه للشكل، كما امتدّ هاجس التجريب لديه إلى تنويع الإيقاع ضمن القصيدة الواحدة، فقصيدته «أحجار سيزيف» يتنقل فيها بين تفعيلات البحر الكامل والبسيط والوافر والمتدارك، وبالرغم من التنافر على السمع إزاء اختلاف الايقاعات ضمن القصيدة الواحدة، إلا أن أديب حسن حاول تلافي ذلك من خلال المحافظة على وحدة موضوع القصيدة وجوّها العام.
وما يلفتُ الانتباه حقا ويقبض على الإعجاب، خواتيم قصائده التي تأتي قويةً ولافتةً ومدهشة في معظم نتاجه، حيث يحمّلها طاقةً شعوريةً وتصويريةً مكثفةً، تُبقي المتلقي تحت تأثيرها لمدة طويلة، وكمثالٍ على ذلك أسوقُ الخواتيم الآتية:
– إنّ الكلام إذا أتى من صوبها/ نسيَ الكلامَ وعادَ دون صوابِ.
– كيف اختصرتَ محاسني في وردةٍ / وأنا الحدائقُ كلّها بثيابي.
– وأنا لا يشبهني أحدٌ ولا أشبهُ نفسي.
وحسبُ أديب قوله هذا البيت الذي يفيض وجعاً وهو بعيدٌ عن وطنه، ووحيد لا نديم له سوى الكأس:
أُقلِّبُ الكأسَ
في كفّي أُسائلها
بالّله أنتَ زجاجُ الكأسِ
أمْ وجعُ …
الشاعر السوري أديب حسن محمد في سطور
ولد الشاعر السوري أديب حسن محمد في العام 1971 في مدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة، ودرس طب الأسنان وجراحتها في جامعة تشرين في اللاذقية، ويعمل طبيب أسنان.
حاز عدة جوائز شعرية منها: جائزة دار سعاد الصباح في العام 1999 عن مجموعته (إلى بعض شأني)، وجائزة البياتي في العام 1999 عن مجموعته (موتى من فرط الحياة).
صدر له عدة مجموعات شعرية منها: “ملك العراء”، مطبعة اليازجي دمشق في العام 2003، و”وثامنهم حزنهم”، اتحاد الكتاب العرب في العام 2004، و “سبّابةٌ تشير إلى العدم”، مطبعة اليازجي دمشق في العام 2007، و”البريّة كما شاءتها يداكِ”، دار الغاوون/ بيروت، في العام 2011، و”أسفل ومنتصف الحياة”، نص مشترك مع الشاعر محمد المطرود، دار الغاوون/ بيروت في العام 2012، و”لا أشبهني” دار فضاءات/ عمان في العام 2018.
صدر له كتاب في النقد الأدبي بعنوان “القصيدة الومضة”، بالاشتراك مع د. هايل الطالب في العام 2008.
Sorry Comments are closed