* رعد أطلي
ترددت كثيراً قبل أن أقرر كتابة تلك المقالة لأمرين اثنين:
الأول يتعلق بالبعد الشخصي للموضوع، حيث يتناول شخصيتين كان من السهل التواصل معهما وأخذ الإذن منهما بالكتابة حول أمر قد يعدونه شخصياً، وقد يتم القبول بالكتابة أو الرفض من قبلهما، وأنه ليس من حق أحد الكتابة عن أي شخص ولو بحجة أنه شخصية عامة دون موافقته، ولكنني أرى أن الأمر يتجاوز الشخصانية في أساسه، بل إن هذا الموضوع يتناول تلك الشخصيتين على أنهما استطاعا بما يمتلكانه في الجانب الذي سأتحدث عنه من المثالية ما يجعلهما قيمة أخلاقية ووطنية، قيمة لا يمكن نقاشها بأبعاد سلبية أو إيجابية، بما هو جيد فيها أم لا، وإنما تبات تلك القيمة هدفاً بحد ذاتها يسعى البعض لتحقيقه وبلوغه، مثالاً يحتذى وقدوة تستفز الإنسان ليقتديها، وليقيّم نفسه تبعاً لقربه من تلك القيمة أو بعده عنها.
الأمر الثاني أن كتابة تلك المقالة بحد ذاتها مؤلمة، أشبه بجلد الذات، والإمعان في إهانتها، وصفعة على وجه شخص مثلي تدمر كل المبررات التي وضعها لنفسه حتى لا يكون مثل تلك الشخصيتين، وهي في الوقت نفسه اعتراف صريح بالخسارة والفشل في رهان بيني وبين نفسي، أنه لا بد لهذين الشخصين أن يستسلما مثلي، لا بد لهما أن يُسقطا ذلك الألم اليومي الذي أعانيه بسبب روعتهما، ألم أسعد به كثيراً كلما زادا في انتزاع الاحترام مني بكل قوة حتى بلغا منه ما جعلني أعتبرهما أكثر شخصين محترمين سمعت أو قرأت أوتقابلت معهما في حياتي، إنهما وعد وحمزة الخطيب، حجة الثورة على الثوار.
وعد وحمزة الخطيب من ثوار مدينة حلب منذ لحظات الثورة الأولى في جامعتها، ولا تنتمي وعد للمدينة أصلاً، بل إن انتماءها لمنطقة يُحكم النظام سيطرته عليها بشكل مطبق كان من الممكن أن يشكل لها حجة منذ تلك الأيام بتجنب متاعب الثورة، ولكن لنقل أن تلك الفترة كانت بما تحمله من خطر الاعتقال وتلقي الرصاص أهون من الفترات اللاحقة.
بعد تحول الثورة إلى نطاقها المسلح وحيث بات من المستحيل الحراك الثوري في مناطق النظام الذي يسيطر على الجامعة عادت الفتاة إلى مدينتها، وقد صعب عليها تماماً البقاء دون حركة تتابع من خلالها حلمها، فتجاوزت ذلك التحدي بإرادة حديدية ضاربة بعرض الحائط كل الأعراف والتقاليد المهترئة وغادرت ابنة أوائل العشرينات مدينتها متجهة إلى حلب المحررة وحيدة دون عائلتها التي يكفينا من الاحترام لهم احترام رغبة ابنتهم بأن تصادرها الثورة لحسابها وتبعدهم كل ذلك البعد عنها، وكانت تعمل باسمها الحركي “سما” حتى لا يتعرض أهلها لأي خطر بتهمة عظمة ابنتهم، أما الدكتور حمزة، فكان طالب طب شهدت كليته الدراسية أولى المظاهرات في مدينة حلب، ولم يتخلف عنها ليغدو أيضاً أحد الأطباء في المشافي الميدانية في المناطق المحررة.
تعرفت عليهما للمرة الأولى في مدينة عنتاب عندما كانا يحضران اجتماع انتخابات مجلس محافظة حلب ويعرضان نشاطات المجلس الطبي، واستمرت علاقة من الزمالة بيننا قوّتها طبيعة عملنا زينة “زوجتي” وأنا في المجال الإعلامي التي تتطابق مع طبيعة عمل “سما” حينها. ومع الأيام بتنا من الأصدقاء.
لن أخوض كثيراً في تفاصيل حياة الاثنين لأنني لا أكتب سيرة ذاتية عنهما، وإنما سأخوض في تفاصيل تعلل لما هما حجة الثورة على الثوار.
بعد لقائنا في المؤتمر وعودتنا جميعاً إلى حلب، اتجهت وزينة إلى حيث تقيم وعد في إحدى المشافي الميدانية لتساعدنا في تقرير نقوم به عن المرأة السورية في عيد المرأة، فرأينا طريقة لباسها مختلفة عما رأيناه أثناء المؤتمر، ولفت انتباهنا ذلك، وعند الخروج جرى نقاش بيني وبين زينة عن ذلك، فقد عددته حينها تراجعاً وتخاذلاً أو استسلاماً للظروف المحيطة، في حين رفضت زينة هذا التقييم واعتبرته ذكاء من أجل حرية الحركة والعمل، وأنها ستلجأ هي أيضاً لذلك، ورغم الاحترام الذي أكنه للفتاة إلا أن تلك الصورة شكلت لدي حينها حالة من الصورة القاتمة عن تفكيرها، وليس اعتراضاً على طريقة اللباس طبعاً بقدر ما هو اعتراض عن التبدل بين حالة وأخرى، واستمر هذا الأمر حتى اجتماع لنا في ائتلاف شباب الثورة حول إقامة غرفة طوارئ لمدينة حلب أثناء الضربة الكيماوية على غوطة دمشق وتهديد الولايات المتحدة بضرب النظام، حينها تحدث الناطق باسم المجلس العسكري يومها حديثاً مطولاً، ورغم أن هناك الكثير من الأخطاء التي كانت ترتكبها الفصائل المنضوية فيما كان حينها غرفة الطوارئ العسكرية إلا أياً منا لم يستطع أن يتحدث عنها، بل رأى بقبول المجلس العسكري التشارك مع الغرفة المدنية بحد ذاته إنجازاً، وكانت وعد الخطيب حينها حاضرة، فقامت بمداخلة كانت تتطلب أكثر مما طُرِحت به من لباقة وذكاء، كانت تتطلب الشجاعة والمواجهة، شجاعة لم نمتلكها لأن بات لدينا الكثير مما نكسبه أو نخسره في ذلك الحديث، إلا أنها كانت شجاعة تنم عن أن صاحبتها ما زالت تتحدث حديث ثورة صافٍ، خال من شوائب نالت منا منذ تلك الفترة، وانتقدت الخطيب في المداخلة كل الأخطاء والمساوئ التي كانت تمارسها الفصائل حينها، أمر أكد لي دون لبس وإلى اليوم أن الفرق بيني وبين حمزة ووعد الخطيب أنهما قررا أن يعملا في الثورة بكل ما أوتي من قوة وشجاعة، وأن لا يجعلا أي عائق يعيقهما عن نشاطهما، فلم يتخل يوماً هو عن عمله في المشفى ولم تتخل هي عن عملها الإعلامي، أما الأمور الأخرى كطريقة اللباس أو غيرها فلا قيمة لها عندهما عندما يتمكنا من متابعة نضالهما.
في فترات لاحقة تعرضنا زينة وأنا للكثير من الإشكالات التي دفعتنا لمغادرة حلب وعدم تمكننا من العودة، وكنا نرى بأم أعيننا أنهما يتعرضان هما أيضاً لمشاكل أخرى، وفكرت مطولاً لم لا يخرجا هما ويستمرا في عملهما في الثورة في تركيا، وخاصة أن حمزة طبيب ويملك فرصة جيدة في العمل في المشافي في تركيا أو على الحدود وبدخل جيد ودون أن يتخلى عن الثورة، وفي الوقت نفسه تمتلك وعد من الخبرة ورصيد الاحترام ما يؤمن لها العمل مع أفضل المنظمات المعنية في المجال الإعلامي، فلم يكن هناك من البقاء في حلب وخاصة بعد أن أضحت عائلة الاثنين في تركيا ضرورة قصوى، لكنهما لم يفكرا بذلك مطلقاً رغم المعاناة المعيشية التي يعانونها في الداخل كزوجين جديدين، وبدأ بقاؤهما يشكل لي هواجس عديدة، وصرت أشعر بالدونية بسببهما، وأنهما أفضل مني بكثير، ورحت أجد المبررات لنفسي في حين يسقطان هما بروعة ثباتهما كل تبرير أعلل به انهزاميتي.
في البداية تذرعت بأن بقائي في حلب بات مستحيلاً لما نتعرض له من خطر على حياتنا ليس نتيجة القصف الذي يعتبر آخر هم بالنسبة لأي ناشط في المدينة، وإنما بسبب الاعتقال أو الخطف أو غيره بعد ما أصبحنا مستهدفين ومن جهات عدة، لكن وعد الخطيب لم تكن من حلب، فلماذا لم نذهب إلى حمص أو درعا أو أي مدينة أخرى، ثم عللت بأن عقليتنا لم تعد مناسبة وخطرة علينا في ظل التخشب والسعار التي تعيشه المدينة في تلك الفترة، لكنهما لم يكونا من المرتاحين لتلك العقلية من الأساس، بل هي على تضاد تام مع طريقة تفكير عائلة الخطيب الصغيرة، وفي النهاية جاءتني الذريعة التي نجوت فيها بنفسي فترة من الزمن، وهي ابنتي التي صرت أراها مسؤوليتي التي يجب علي أن أحميها وأنه ما من والد يمكن أن تسنح له الفرصة في حماية أولاده ويتخلى عنها لأي سبب كان، وعندما حملت وعد بابنتها أحسست بالنصر، فقد قربت لحظة استسلامها، وستفكر ملياً ثم تغادر المدينة.
في إحدى مقاهي حدائق عنتاب كنا نجلس أنا وزينة ووعد التي كانت في زيارة لأهلها حينها وأمها وأخوتها، وكنت أحرص على سماع إعلانها استسلامها، لكنها بدت عنيدة أكثر من ذي قبل وأنها غير قابلة للخضوع مهما كان الثمن، وشعرت بنفسي إنساناً تافهاً و أنا أحاول إقناعها بأن تتخلى عن إيمانها الذي تخلينا عنه نحن سابقاً وترتد كافرة بالثورة وطهارتها، وكانت المشاعر مختلطة لدي حينها تجاهها وتجاه وزوجها، شعور بالمرارة أمام هزيمتي الثقيلة، وشعور آخر بالفخر أنني في يوم من الأيام عرفت تلك الشخصيتين، ومن ثم انتقلت إلى طور آخر من الوهم، وأنه عندما يستقبلان طفلتهما ستتغير الأمور حتماً، وستدفعهما براءتها للنجاة بها من جهنم المدينة، وعندما أقبلت ابنة الرائعين على الدنيا كان اسمها منذ اللحظة الأولى إعلان هزيمتي، فقد سموها “سما”، الاسم الحركي لوعد الخطيب في بداية الثورة، وكأنهما يصرخان في وجهي بأن إيمانهما لن يتزحزح قيد شعرة، وها هي تجربة الأم يتم توريثها لابنتها.
أثناء الكلَبِ الوحشي الروسي على حلب المدينة وتدميرها وارتكاب المجازر في كل زاوية فيها كان الزوجان في تركيا قبل يومين اثنين، وتم قصف المشفى التي كان يعمل بها حمزة، أي أنه لو كان هناك يومها لما كان حياً اليوم، في تلك الأثناء قلت أن تلك التجربة التي مرا بها ستكون نهاية رهاني وسأنتصر، وفي حديث بين وعد وزينة على الفيس بوك علمت أنه في الوقت الذي يتصارع فيه الناس على الهروب من نار البرابرة الروس ويدينون فيه صلف الحكومة التركية في موقفها من تجاوز الحدود إلى تركيا، كان صديقانا متألمين محتارين يبحثان عن طريقة لاجتياز الحدود من أجل الدخول لحلب. هنا رفعت راية الاستسلام، وعلمت أن الفرق بيني وكثيرين مثلي وبينهما لا يرتبط بمنطقية التفكير واستنباط النتائج من الأسباب، بل هو بالقدرة على تحدي المنطق، وأن تجعل من المستحيل منطقاً يومياً يمكنك أن تعيشه، الأمر ليس بالإيمان بعدالة القضية، وليس بمن يحب الوطن أكثر، ولا أرى أنهما يؤمنون أكثر من غيرهما بعدالة الثورة ويحبان سوريا أيضاً أكثر من الآخرين، ولكن الأمر بمدى قدرتك على التضحية من أجل ما تؤمن به وتحبه، هنا يختلف الناس.
لا يمكن لأي ثائر أن يتذرع بأي شيء أمام قصة تلك الشخصيتين. من أجل مستقبل ضاع؟ ها هو طالب طب وطالبة اقتصاد فضلا الثورة على مستقبلها الذي هو أفضل من مستقبل اي منا، حياة أفضل؟ أيضاً كان من الممكن أن تكون حياتهما أفضل من الآخرين في تركيا أو أوروبا أو غيرها. من أجل الأولاد؟ لا يمكن لأحد أن ينكر أن الطفل الأول هو الأعز والأغلى على والديه، وها هي سما في أيامها الأولى تتظاهر في حلب المدينة في الوقت الذي لا نستطيع إلا أن نخجل من صورها على الفيس لأنها تفعل وهي ابنة الشهور ما هربنا من فعله نحن. وعد الخطيب وحمزة الخطيب هما بطاقة الثورة أمام أي مبررات أو ادعاءات سرعان ما تبات فارغة أمام صمودهما.
في نهاية الأمر فهمت ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام عن من شهد بدر بأنه رفع الكتاب عنهم وأنه مغفور له ما يعمل باقي حياته، فهما إن بقيا اليوم في حلب أو دفعتهم الظروف للخروج يوماً فقد سقط عنهما العتب، هم ومثلهم كثيرون في حلب أبطال نتمنى أن لا يكونوا أسطوريين، بل أن يكونوا هم قادتنا في المستقبل رغم عدم تفكيرهم بذلك، وأعترف أنني من اليوم وصاعداً لم يعد يهمني إن ظلوا أو هاجروا، فقد نلت الشرف والفخر بأني خسرت رهاني معهما.
عذراً التعليقات مغلقة