وجـوه..
الشاعر صلاح ابراهيم الحسن.. ربابةٌ في الليل مطلقةُ العنان
بقلم: سليمان نحيلي
ماذا سأكتب في غيابكِ؟
لم تساعدني المدينة كي أَمدَّ
الحبَّ جسراً بين قلبينا
وأُوقظَ فرحتي من نومها
لاشيء يفرحني إذن
فالأرض ضيّقةٌ على فرحي
وها أنا الضوء المضيّعُ في جهاتكِ
ليس لي إلا الوقوف على بقايا ذكرياتكِ
ربّما في ذات سطرٍ ألتقيكِ فأحتويكِ
هكذا تندغم نصوص الشاعر السوري صلاح ابراهيم الحسن بوجع الواقع وقساوته، وتغتسل بهاجس الغياب والفقد والموت والتذكر، وتنوء كما روحه بأسئلة القلق والحيرة محمولة على إحساسٍ مرهفٍ، مفعمٍ بصدق عالٍ وروحٍ شفيفةٍ، وهو مسكونٌ بهاجس الكتابة وأسئلة الكتابة، وقلقها، إنه الشاعر المفتوح المُشرَعُ على الغياب، غياب من أَحبهم فعاجلهم الرحيل والمنفى والموت، وإزاء الرحيل تندلع مشاعر الفقد والحنين وتبدأ رحلة التذكّر والذكريات.
وبالعودة إلى المقطع أعلاه وسواه من مقاطع تتواشج على نفس الموضوع يظهر جلياً لنا أن ما يميز نتاج صلاح هو اشتغاله على عامل العودة إلى الماضي، ففي مجموعته «هي أمكَ الأخرى»، لا تخلو قصيدة من ذكر مفردة الذكرى وحقولها الدلالية.
وإذا كان الشعراء الجاهليون قد امتازوا بالوقوف على الأطلال، فإنّ صلاح الحسن امتاز بالوقوف على الذكريات من شرفة الحاضر، كما في المقطع السابق وغيره في أرجاء مجموعته.
إنّ العودة للماضي عبر التذكّر واستحضار الذكريات، كما ذكر «المقريزي» يعبّر عن (رفض الواقع المعاش والتأزّم مع الحاضر وبالتالي فإن ذلك من أهم أسباب العودة للماضي عبر الذكريات)، فاستدعاء الماضي هو استدعاء للحظاتٍ سعيدة، وبذلك تكون الذكريات أمام العجز عن تغيير الواقع بمثابة علاجٍ ممكنٍ لروحه القلقة، إنها تبدو كتعبيرٍ عن كلّ ما يشير إلى الدفء والحنينِ إلى الأوقات الجميلة البعيدة، كزمن الطفولة، أو زمن الوصال مع الحبيبة، إنها «النوستالجيا»، حنينٌ إلى زمانٍ ما ومكانٍ ما، فيعبر من واقعه المؤلم إلى الماضي عبر شارع الذكرى العريض، إلى زمن الطفولة المبكرة حيث حتى العداوات فيما بين الرفاق تتسمُ بالبراءة والعفوية، فيجيبنا عن أسئلة الانتماء والحب والشغف ويدرك حقيقة ذاته التائهة، لنعبر الآن معه إلى طفولته:
لنا – نحن – التّهجّدُ في هزيع الهمّ والفوضى..
سنعبر شارع الذكرى العريضِ
لنحمل الأطفال فوق ظهورنا
هكذا تصبح الذاكرة لديه مستودعاً للذكريات الجميلة أمام واقعه المليء بالغياب والفقد والحقد والحروب، الواقع الذي هشٍم روحه، ذكريات عن ماضٍ كان الحب عنوانه، تُخزّن في أعماق الذاكرة وتعمِّر طويلاً لاحتوائها على شحنة عاطفية جيّاشة أو على صدمة، فيقوم باستدعائها وتكرارها كلما ألجأَهُ واقعه المرير إلى ذلك، على خلاف الذكريات الحيادية، وهل غير المساء حين يخلو المرء مع روحه وقت أنسب لذلك التداعي الذكرياتي لشاعر شفيف:
هل كلّما حلّ المساء ؟
عليّ أن أبكي؟
وأن أتلمّس الأوراق بحثاً عن يديكِ
كأنني أعمى أضاعَ نجومه في الدّربِ
أمضي إلى – لا إلى جهةٍ – على قلقي
وأنا أُحبكِ فوق ماتتصورين الآن
لكني فقدتُ براعة الشعراء في رسم العواطفِ
صرتُ شفافاً كجرحِ فراشةٍ في الليل..
إلا أنّ الذاكرة لاتقف عند كونها مستودعاً للذكريات الجميلة بل تتطور لتصبح وسيلةً للديمومة والاستمرار والمواجهة ولمقاومة الغياب والنسيان :
أنتَ تذكر جرحكَ الفضّيَّ فوق جبينكَ الصّيفيّ
تبكي، ثمّ يطردنا أبوكَ.. يسبّنا
ونعود نلعب بعد أيامٍ معاً ..
ولعلّ من أهم الموضوعات التي امتاز صلاح بطرحها هي قضية الحب، فالحب لديه قضية كبرى متجددة كالحياة، طرحها كقيمة لمواجهة أحقاد البشر وخلافاتهم وحروبهم، وهل مشاكل الانسانية ناشئة إلا عن قصور البشر عن ممارسة هذه القيمة التي خصّ الله بها بني البشر، والتي ساهمت المدنية في إطفاء جذوتها، فبالرغم من كل التكنولوجيا التي وصل إليها الإنسان المعاصر إلا أنه يظلّ عاجزاً عن الوصول إلى قلوب الآخرين، يقول:
لم تساعدني المدينة كي أمدَّ
الحبّ جسراّ بين قلبينا
ويؤكد على وجوب الاستمرار في الحب والوفاء له كقيمة إنسانية عالية بغض النظر عن الآخر، ولذلك يخاطب العاثر في الحب قائلاً:
لا تنتظر حلماً يطير أمام عينك كالغزال، فلن يعود
ولا تفكّر في اعتزال الحبّ
سوف تجيء أنثى هكذا دون انتظارٍ كالمطر
تمشي على أهداب عينك
هي أُمّكَ الأخرى
سيضيئ روحكَ من جديد ..
كما امتاز صلاح بمعالجة قضية أخرى هامة باتت تهدد كل المجتمعات، وهي قضية الهوية والانتماء، حيث أدرك بوعيه وحسه وحدسه ما تريده قوى السيطرة العالمية من إذابة لتلك المقومات والقيم الايجابية وصولاً لجعل البشر مستنسخين وفق انموذج يريدونه، يغدو فيه الإنسان فاقداً لكل خصائصه وصفاته الذاتية وجوهره الانساني وأصالته، ولذلك يرفع صوته في وجه هذا المدّ مقاوماً كل محاولات التشويه والإذابة والاستلاب الإنساني:
أنا ذلك البدويُّ
تسكنُ خيمةُ في أضلعي
وربابتي في الليل مطلقةُ العنان
كم حاولوا أن يكسروا سيفي وصوتي
كم حاولوا تغيير أوردتي
ونسخ ملامحي
كم حاولوا أن يسرقوا نخلي وواحاتي
فأيقظني حصاني..
ولعلّ من أكثر الموضوعات التي تجلّت في نتاج الشاعر هي قضية شعبه وكفاحه من أجل الحرية والكرامة، فقد رافقها بالحس والقلم منذ اليوم الأول لحراكه الباحث عن الحرية، وهو بالرغم من كل المجازر التي ارتكبها الطغاة لازال راسخاً في أرضه في المناطق الخارجة عن يد المجرمين، حتى أنه يمكننا القول أن كل نتاجه الابداعي بعد انطلاق صوت الحرية نسجها من آلام وجراحات شعبه، حيث صوّر في قصائد تقطر ألماً جرائم “جيش الوطن” بحق شعبه، جيش يفترض فيه حماية الشعب والأطفال لا هرسهم تحت جنازير الدبابات وتدمير منازلهم فوق رؤوسهم وذكرياتهم وألعابهم:
في البدء كانت السكين
منذ قابيل وإلى آخر مجزرة
الكلماتُ لم تكن وُلدت بعدُ
الكلمات التي تحفظونها عن الأمل
لن تمنح الحياة لوردةٍ صغيرةٍ
مرّت من فوقها دبابات الوطن
الكلمات التي تحفظونها عن الفرح
لن تمسح دمعةَ طفلٍ فقد درّاجته تحت ركام المنزل ..
ويقول أيضاً مقدّماً صوراً تفتك بالروح ألماً، عن يوميات الجرح السوري الطويل الذي مازال نازفاً حتى هذه اللحظة، حيث أصبح وطنه معرضاً تعرض فيه كل ألوان الموت، من القنص والقصف والمجازر والغرق والعالم يقف متفرجاً فاقداً للانسانية:
حين تذهب إلى البحر
سترى الأمواج تتلاطم في أفئدة الفقراء
نقيةً ومشتهاةً كالأرغفة
حين تذهب إلى المقبرة
ستقرأ اسمكَ على كل الشواهد
وتبكي عليك..
حين لاتذهبُ
لا تستطيع كتابة قصيدةٍ
وحين تذهب
لا تستطيع أن تنام…
وعلى صعيد التقنيات الجمالية والأسلوبية فقد امتاز الشاعر في توظيف الموروث الديني النّصيّ في كثير من قصائده فنجح في ذلك، حيث لم يُدخل النص القرآني بحرفيته، إنما اكتفى بالإشارة لذلك تاركاً للمتلقي ارتشاف المعنى والمغزى، ولعلّ من أهم ما يستوقف القارئ في هذا السياق، اشتغال الشاعر على مفردة «القميص» والتي يتبادر للذهن عند ذكرها قميص يوسف الذي كان أحد أهم محاور قصته المعروفة الواردة في القرآن الكريم، إلا أنّ الشاعر قدّم رؤية مختلفة عن القميص، ففي حين نراه يقترب من رمزيته المعروفة حين ارتدّ ليعقوب النبي بصره لما وضعه على عينيه، وذلك حين قال:
وحدي أطوفُ الآن حول الكهف
منتظراً قميصكِ
ربما يرتدُّ للقلب الذي اسودّت به الصفحاتُ نهر الضوء ..
نراه في موضع آخر ينظر إلى القميص كأغنية حين يقول:
وأرى قميصكِ بين شبّاكينِ ينفتحان بعد الظهر أغنيةً
إلى أن يعطي القميص مدلولاً آخر مخالفاً لرمزيته المعتادة، حيث يمسي مكمناً للخطر والغدر، فيقول:
فلمَ لم أنتبه للذئبِ في عينكَ
إذ أخرجتَ من جيبِ القميص
سلاحكَ الصّدئ الحقير..
ولقد حقق الشاعر في مجال اللغة بوصفها الأداة الأساسية في الفنون الكلامية تشكيلات ومجازات لغوية مبتكرة تتسم بالشاعرية والإدهاش وبعد التأثير، على نحو ما نجده في الجمل الشعرية التالية: (تفاحها المجهول في علم الشجر)، (وها أنا أبكي عليكِ بلا دموعٍ مثل ناي)، (مُدّي يديكِ، فطعنةٌ في الظهر لاتكفي لنبقى أصدقاء)، (إن صفقنا وجهنا في وجه طارقنا الأخير).
ولقد برع الشاعر في تشكيل الصور والمشاهد الشعرية في الاتجاهين، الداخلية “المعنوية،” والخارجية “الحسية المُدركة”، مع تحميلها دفقاً خيالياً تمثيلياً وعاطفياً يأخذ بالمتلقي إلى أعالي التأثّر والدهشة، وأكتفي هنا بهذين المثالين دون إسهاب في التحليل والتعليق:
(لا لم يكن ليلاً / ولكن فاض هذا الحزن من عينيّ نحو الدرب)
(ها أنتِ سيدة الشمال .. وها أنا وحدي هنا /أبكي إذا لمحت عيوني طائراً / يمضي إلى جهة الشمال / وأُضيءُ مثل قصيدةٍ شعراً).
وتمضي الأيام والسنوات وتفرّق الحرب ما بين الأهل والأصدقاء والأحبة، فمنهم من شربتهم الحرب، وصاروا حديث القبور، ومنهم من تناثروا في المنافي في شتى جهات الأرض، فكل المواعيد واللقاءات الجميلة تأجلت حتى تنتهي الحرب، إن لم يعاجلهم الموت.
وتهيج نفسه شوقاً إلى أصدقائه ومنهم صديقه العزيز إلى قلبه ومطابقه في الاسم، الشاعر حسن إبراهيم الحسن، الذي أبعدته الحرب إلى ألمانيا، فيمسك قلمه ويكتب له من فيوض روحه:
ولا ضيركَ إن صرتَ بلا أرضٍ
طوبى لسمائكَ
لا للأرضِ وقد ضاقت بالشعراءِ
وأفسدها الأمراء المنحدرون من الطينِ الملكيّ
طوبى لسمائكَ
حين يحنّ الفجر لصوتكَ مصلوباً كالريح على الأشجارِ
ومفضوحاً كالطّلّ على الأزهار…
* * *
الشاعر السوري صلاح ابراهيم الحسن في سطور
- الشاعر السوري صلاح ابراهيم الحسن، من مواليد عام 1977 في قرية أبو كهف – حلب.
- يحمل الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة حلب، في العام 2003، وماجستير في النقد الأدبي الحديث، وأعدّ رسالة دكتوراة بعنوان: (تداخل الأجناس الأدبية في الشعر العربي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين)، وقد أنجزها في العام 2016 لكنه لم يناقشها خوفاً من الاعتقال لموقفه المؤيد للثورة السورية.
- حاز على المركز الأول في مسابقة دار سعاد الصباح في الكويت/ دورة 2005 – 2006، كما حاز على عدة جوائز محلية أخرى منها جائزة البحتري الشعرية في منبج /سوريا في العام 2008.
- صدر للشاعر مجموعة شعرية بعنوان “هي أمك الأخرى” عن دار سعاد الصباح الصباح / الكويت / 2007.
- له أكثر من مخطوط، تأجلت طباعتها بسبب الحرب.
Sorry Comments are closed