حكايتي مع أبطال لا يتكررون

محمود أبو المجد14 أبريل 2019آخر تحديث :
محمود أبو المجد

ساعات مضت حفرت في ذاكرتي قصة مؤلمة لا يمكن أن تنسى مهما أكل عليها الزمن وشرب، في ذلك اليوم الصيفي من عام 2013، ومع اشتداد حرارة شمس شهر رمضان المبارك، كنت مع ثلة من الشباب في الريف الشرقي لحماة ننتظر إدخال سيارة تحمل ذخيرة للثوار إلى الريف الحمصي المحرر آنذاك، جلست أتسامر معهم في جلسة لم أكن أتوقعها الأخيرة وأنني سأفقدهم بعد دقائق وأراهم يقتلون أمام عيني.

كانوا صياماً وبعد رفع أذان الظهر قمنا للصلاة، وبعدها بلحظات قليلة وصلت السيارة التي سيتم إدخالها، وذهب الشباب أمامي مسرعين وكلهم همة وحيوية، يمشون كالأسود التي لا تهاب الموت الذي كان ينتظرهم على بعد أمتار.

هممت بلحاقهم وإذ بكمين لقوات النظام خرج من بين الأشجار ومن قلب القرية التي كنا بجوارها وهم على غفلة من أمرهم، وبدأت لحظة الصفر، تلك اللحظة التي كانت من أبشع اللحظات التي مرت في حياتي، لا يبعدون عني سوى 100 متر، نعم رأيتهم كيف يسقطون شهداء واحداً تلو الآخر من غزارة الرصاص الذي انهال عليهم من كل حدب وصوب، رصاص الغدر الذي لم ولن أنساه ما حييت، رصاص الحقد من جيش كان من المفترض أن يموت من أجل أن يحيا هؤلاء الشباب.

وقفت متسمراً لا حيلة لدي، رأيت محمد وعلي ونزار ورفقائهم يتساقطون كالجبال الشامخة، هي لحظات قليلة لكنها مرت كأنها سنوات من العذاب، توقف الرصاص ثوان عديدة، وبعدها توجه رصاص حقدهم نحوي، وبدأت بالجري وهم ورائي والرصاص ينهال كالمطر من حولي وأنا انتظر رصاصة الرحمة التي ستكون سبباً في انضمامي إلى رفاقي، وصلت إلى حافة نهر العاصي وتوقفت مع هذه اللحظة كل الأفكار، فلم يكن أمامي سوى إلقاء نفسي في النهر وأنا لا أجيد السباحة، وكان العدو من ورائي والنهر من أمامي، فهل أختار أن أكون أسيراً بين يديهم أم أختار الموت غرقاً، وحينها قررت القفز في النهر فربما سيكون أرحم علي منهم، وبدأت أحاول السباحة من دون جدوى وأنا أسأل نفسي إذا ما كنت سأنجو.

بقيت أصارع الموت تحت الماء عدة ثوان ربما كانت أطول ثواني حياتي وأنا في انتظار خروج الروح من الجسد، ودعوت الله أن يسرع في الفرج عليّ بخروج الروح، لكن يبدو أن الأقدار كانت قد كتبت عكس ما دعوت، وإذ بالمياه تقذفني إلى الحافة تحت تلك الأعشاب المتناثرة على أطراف النهر، وسمعت صوت أقدامهم المتسخة بالعار وصرخ أحدهم أطلقوا النار في الماء، وبدأ الرصاص ينهال بالقرب مني وتمنيت الموت على أن أقع أسيراً بين يديهم، وما هي إلا لحظات حتى توقف الرصاص بعدها وعاد الهدوء وأنا صامت تحت الماء.

أخرجت وجهي فقط لأستطيع التنفس، وتمسكت بالأعشاب التي تحولت إلى حبال لم أكن أدري أنها حبال الأمل بحياة جديدة. بقيت على هذه الحال ساعتين مشوش الأفكار أستذكر لحظات استشهاد الشباب، وأحاول الخروج الذي يكمن وراءه خوف من الاعتقال، وغامرت بالخروج وكان الوقت قبل أذان المغرب بنصف ساعة حيث قدر الله لي الخروج سالماً ورفاقي قد استشهدوا في موقف ما زال يتردد في ذاكرتي.

هذه قصة شباب غامروا بحياتهم لإيصال الذخائر إلى الثوار، وليت الثوار يعلمون أن ثمن الذخائر التي تطلق في الأعراس كان غالياً.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل