مارسيل خليفة ثائراً للسودان

عمر قدور14 أبريل 2019آخر تحديث :
مارسيل خليفة ثائراً للسودان

تناقل سوريون بغيظ تغريدة على تويتر لمارسيل خليفة في التاسع من هذا الشهر، يخاطب فيها السودانيين قائلاً: “يا أهلنا في الأقاصي في السودان الحبيب، خذونا معكم إلى الحرية، شمسكم افترست كل النجوم”. مصدر الغيظ ليس وقوف الفنان مع ثورة السودان، وإنما صمته الفادح على الجرائم التي ارتكبها الأسد في حق السوريين، وبذلك خذل شريحة “من الذين ثاروا ضد الأسد” كانت قد آمنت بأن لها قضية مشتركة معه، مثلما خذل هذه الشريحة فنانون آخرون ينتمون إلى التيار نفسه. مارسيل خليفة نفسه يبدو في تغريدته كأنه خارج عن سياقه، ففي مناسبتين قريبتين، أولهما حوار مع “العربي الجديد-ضفة ثالثة 19/2/2019” وثانيهما لقاء في كلية الآداب في الدار البيضاء قبل أسبوعين، يتحدث بعمومية عن الاضطراب السياسي في المنطقة وآثاره السلبية على الوعي، مؤكداً في المرتين على انغماس العرب في “حروبهم الطائفية” على حساب قضية القدس!

الحق أن مارسيل خليفة لا يأتينا بجديد إطلاقاً بالمقارنة مع مواقف زملاء له محسوبين على خندق اليسار العربي إياه، ومواقف هذا اليسار المخزية من ثورات المنطقة صارت معهودة، بل لم يتورع قسم كبير منه على الاصطفاف العلني مع بشار الأسد بذريعة أو أخرى، ولم يخجل من انتقائيته بوقوفه مع ثورات عربية ضد أنظمة لا تروق له. أي أن معياره لم يكن يوماً مفهوم الحرية، وأنظار أهله لم تكن يوماً موجهة إلى الشعوب وإنما إلى الأنظمة وعلاقته به، ذلك إذا لم نتوقف عند اصطفافات أدنى شأناً من نوع انكشاف طائفية قسم من اليساريين.

ربما هي واحدة من المصائب أننا أخذنا اليسار العربي على محمل الجد، ولو بحكم وجوده ليس إلا. إننا أمام ظاهرة تفسخت وتعفنت، وبقيت موجودة من دون أن تحظى بانتباه لأسباب وطبيعة وجودها. إذا أخذنا جانب المتعاطفين مع اليسار فإن النظرة التي كانت سائدة لا تتعدى بعض السمات، منها أن اليسار تحرري وتقدمي، وأحياناً يلتبس وصفه بالعلمانية مع وصمه بمعاداة الدين من قبل خصومه، ولا ننسى طبعاً أن الجوهر المفترض له هو إيمانه بالعدالة الاجتماعية.

الصفات السابقة بدورها ثُمِّنت من دون تمحيص فيها؛ صفة التحرر مثلاً واكبت المرحلة الكولونيالية وما بعدها، حيث شاع العداء للغرب لدى مختلف التيارات السياسية، ورغم أن الاستقلال بات واقعاً في بلدان المنطقة إلا أن القضية الفلسطينية برزت لتصبح القضية التحررية المركزية لتلك التيارات، والأصح أنها أصبحت واجهة لتحجب قضيةُ التحرر قضية أخرى ذات أولوية هي قضية الحرية في بلدان المنطقة نفسها. أهم ما حجبته القضية الفلسطينية أن اليسار العربي مناهض بطبيعته لمفهوم الحرية، لذا يبدو تمسكه اليوم بالقضية الفلسطينية تشبثاً بالذريعة القديمة ذاتها التي تحافظ عليه تحررياً وتعلي من شأن فكرة التحرر على حساب حرية الشعوب، وعلى نحو خاص تعلي أيضاً من شأن الأنظمة التي تدّعي مقاومة إسرائيل على حساب الأنظمة التي توصف بأنها متخاذلة.

وفي حين استُمدّت فكرة التقدم أصلاً من الحداثة الغربية فإن ترجمتها لدى اليسار العربي تجنبت ذلك الأصل، بسبب عداء أكثر تأصلاً للمنظومة الليبرالية الغربية، وهذه المرة خلف حجاب الالتحاق بالمعسكر السوفيتي بوصفه مرحلة متقدمة على الرأسمالية. لم يغيّر من هذه الوضعية سقوط المعسكر السوفيتي وانكشافه على أسوأ ما في الديكتاتورية ورأسمالية الدولة معاً. وفق المسطرة نفسها، صنّف اليساريون الأنظمة العربية بين تقدمية ورجعية، بصرف النظر عن مستوى الحريات في كل بلد، وبصرف النظر عن مستوى المعيشة المتحقق للمواطنين وتالياً مستوى فساد السلطة. هكذا أصبح كل نظام يرتبط بعلاقة جيدة معلنة مع الغرب رجعياً وعميلاً، وكل نظام يعلن عداءه للغرب “ولو كان إعلامياً وشكلياً فحسب” تقدمياً، وبينما حرب اليسار على “الأنظمة الرجعية” بمثابة صراع وجود فإنها الصراع مع “الأنظمة التقدمية” إن وجد فهو نسبي، وغالباً على قاعدة أنها ليست جذرية بما يكفي، وعندما تتعرض لأدنى خطر تبرز الغيرة عليها أقوى من أي عتب سابق.

بالمثل جرى تصنيف باقي القوى المجتمعية بأنها قوى رجعية أو ظلامية أو يمينية، ذلك في بلدان منعت فيها السلطاتُ السياسةَ، وأمسكت بمفاصل القوة جميعاً وفي مقدمها الاقتصاد. مرة أخرى، يأتي التصنيف من الأدبيات الغربية ليُستخدم اعتباطاً، ففي غياب حد أدنى من الليبرالية الاقتصادية والسياسية يكون من الهزل الحديث عن اليسار أو اليمين كقوى سياسية ومجتمعية في آن. ربما علينا التذكير بأن اقتصاديات دول المنطقة قائمة بمعظمها على رأسمالية الدولة الريعية، أي أن السلطة هي التي تمسك بالثروات الطبيعية وتتولى توزيعها، ونسبة رسملة الإنتاج الخاص في معظم هذه البلدان إلى مجمل الاقتصاد هي نسبة بسيطة.

لم يقدّم اليسار العربي في تاريخه نقداً جذرياً لرأسمالية الدولة “المسماة اشتراكية” لئلا يقع في حرج السؤال عن سبل إنتاج الثروة، حيث لا يوجد بديل مطروح واقعياً سوى التحول الرأسمالي الذي يتجنبه، وحيث أثبتت “اشتراكية الفقر” فشلها الذريع. عطفاً على ذلك، سيكون التشدق بالحديث عن العدالة الاجتماعية نوعاً من اللغو، بسبب غياب الصراع الطبقي بمعناه الكلاسيكي، والإمساك بالثروات من قبل العسكر الذين صعدوا إلى السلطة على الضد من الطبقة البرجوازية التي أُجهز عليها وهي في بداية نشوئها. فإذا كان العسكر تقدميون واشتراكيون، ولو أقل مما ينبغي وفق التصور اليساري، فهم يبقون على علاتهم مقبولين أكثر من شبهة التحول الليبرالي ولتذهب العدالة الاجتماعية والحريات العامة إلى الجحيم.

لقد قيل الكثير أيضاً عن انكشاف طائفية جزء من اليسار العربي، بصرف النظر عن المنابت الأهلية للمتهمين بها. هذا أيضاً جانب يستحق الدراسة، ولا تفيه حقه بعض التعليقات السريعة أو الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي. ففي سبيل مفكّري اليسار إلى البحث عن جذور محلية جرى النبش في التاريخ من أجل العثور على حركات ثورية، أو حركات تنشد نوعاً من العدالة. بالطبع التاريخ المعني هو التاريخ الإسلامي، والسلطة الحاكمة كانت غالباً “زمانياً ومكانياً” سلطةً سنّيّة، وفي ظروف التاريخ ذاك “وهذا ليس حكراً على التاريخ الإسلامي” كانت الحركات المناوئة لها ذات طابع مذهبي مغاير، لذا أكسب منظّرو اليسار تلك الحركات قيمة ثورية “متناسين طابعها الديني أيضاً”، وبهذا المعنى أصبح المذهب السنّي ملتبساً بالسلطة ماضياً وحاضراً، بينما تلتبس المذاهب الأخرى بالمظلومية والثورية معاً. إن ما طفا على السطح مما يمكن اعتباره يساراً طائفياً يستند إلى العديد من الأدبيات التي شاعت منذ سبعينات القرن الماضي، أي أنه مؤسس فكرياً “سواء وعى ذلك من تأثروا بتلك الكتب أو لم يعوا”، وتلك التأثيرات تجدر دراستها جيداً قبل إلقاء اتهامات الطائفية على محمل الخفة فحسب.

بالمقارنة، قد نجد تعاطياً سلبياً لدى قسم من اليسار الغربي مع الثورة السورية مثلاً، والحجة هنا هي دعم الثورة من قبل حكومات الخليج “الرجعية”. هذا الجزء من اليسار “الذي يمثله شيوعيون أو شيوعيون سابقون” بقي أميناً لتصنيفات الحرب الباردة، إلا أن تعاطيه مع اللاجئين السوريين ومأساتهم لا يفتقر إلى الإنسانية، وهو ببساطة موقف داعم له. أما اليسار غير الشيوعي فوقف في معظمه مع الثورات العربية، وتميز عن اليمين بمواقفه الإيجابية إزاء اللاجئين. في كل الأحوال، ما يجمع التيارين أنهما غير عنصريين، وقبل ذلك نحن نتحدث عن تيارات سياسية لها عمق اجتماعي، ولها برامج اقتصادية مرتبطة بالواقع، وهي جزء أصيل من الحياة السياسية بحيث أن ضعف بعضها يهدد باختلال توازن الحياة السياسية ككل. في الواقع أن أية مقارنة بين اليسار العربي واليسار الغربي لا تأخذنا إلى البون الشاسع بينهما، بل تقول لنا كم أن اليسار الغربي واقع حقيقي، وكم أن اليسار العربي كذبة كبرى ولو آمنا بها أو صدقناها يوماً.

المصدر المدن
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل