كما جرى التفاجؤ بالموقف الأميركي من سورية، يجري التفاجؤ بموقف قنوات غربية، مثل “بي بي سي” و”فرانس 24″، حيث ظهر في الفترة الأخيرة (فقط لبعضهم) أنها منحازة للنظام السوري. كان التصوّر لدى المعارضة السورية أن “الغرب” معها، وبالتالي، من الطبيعي أن يكون الإعلام الغربي معها وضد النظام. لكن بعض البرامج التي أذيعت، أخيراً، فاجأت هؤلاء.
وكما في اكتشاف التواطؤ الأميركي مع روسيا (ومع النظام)، يُظهر هذا الاكتشاف الجديد مدى السذاجة والسطحية، وحتى الجهل الذي يحكم من تصدّى لقيادة الثورة، معتبراً أنه الأحق في ذلك، وأيضاً الأقدر على ذلك. لكن، يتضح الآن أكثر كيف أن كل المنظور الذي حكم هذه المعارضة كان يقوم على الأوهام والأهواء معاً، على الرغبة والتقدير العشوائي، و”الظن الحسن” إذا ما أردنا الانطلاق من تبسيط للأمر.
كل تقديرات هذه المعارضة كانت خاطئة، ومضرّة بالثورة، كما أشرت إلى ذلك مبكراً. ولهذا، اشتغلت على “إستراتيجية” وهمية، وأقامت علاقات و”تحالفات” مضرّة بالثورة، لكنها كذلك لم تخدم هؤلاء، بل خدمت الدول التي قيل إنها “أصدقاء الشعب السوري”. وما كان غائباً عن الفهم، وربما كان هناك استحالة لفهمه، هو أن الأمر لم يكن يتعلق بمشكلةٍ في سورية، ولا عنف وحشياً يقوم به النظام سوف يدفع الغرب، الحضاري والمؤيد للديمقراطية! إلى أن يتدّخل لوقف الجرائم التي بات النظام يمارسها وهو يقاتل الشعب. بل كان يتعلق بثوراتٍ نهضت ضد نظم رتبتها الإمبريالية الأميركية منذ عقود، وفرضت استقرارها، وهي تعمل على نهب المجتمعات. والأخطر أن هذه الثورة انتشرت بسرعةٍ لافتةٍ من تونس الى سورية، مروراً بمعظم البلدان العربية. وفي وضعٍ تشهد فيه الرأسمالية أزمةً حرجة وخطيرةً، لم تجد حلاً لها، وهو ما يعني أن إمكانية انتشار الثورة عالمياً يمكن أن يكون أمراً قائماً، كما شهدنا في إسبانيا واليونان وإيطاليا وحتى فرنسا، وأيضاً “وول ستريت”.
من لا يعرف معنى ذلك بالنسبة للرأسمال الإمبريالي لا يكون “ذا فهم”، ويتسم بالغباء المفرط. كان الهمّ بالنسبة للغرب هو كيف يمكن إجهاض الثورات، وكيف يمكن تخريبها، وأيضاً كيف يمكن التخويف منها. كانت هذه المسألة الأخيرة من مهمة الإعلام الذي أراد “نقل صورةٍ خاطئة” عما يجري، وأن يصوّر الأمر وكأنه يتعلق بأصوليةٍ تريد السيطرة والحكم. بالتالي، أن من يتحرّك ضد النظم هم الأصوليون تحديداً. لهذا، تحدّث الإعلام الغربي (خصوصاً “بي بي سي”، و”فرانس 24”) مبكراً عن “حربٍ أهلية” و”صراع طائفي” في سورية، منذ كان الحراك شعبياً سلمياً. وكان يبدو أنه يريد ترسيخ صورةٍ عما يجري في سورية، يتوافق مع خطاب النظام الذي اعتبر أن ما يجري حراك سلفي إخواني، أصولي إسلامي. كما نشط الإعلام هذا على تضخيم أدوار تنظيم القاعدة ثم “داعش”، واعتبار أنها الخطر الفعلي، مغطيةً على الحراك الفعلي الذي هو ثورات تريد إسقاط النظم.
والآن، باتت الأولوية هي اعتبار أن الصراع هو مع الإرهاب، أي مع “داعش” والأصولية الإسلامية. لهذا، يُرفَض الحراك الشعبي لمصلحة النظم التي يقال إنها ضد “الإرهاب”. وبالنسبة لهذا الإعلام، لم يعد هناك ثورات (بعد أن اعترفت جزئياً في البدء) بل إرهاب أصولي إسلامي، ومن ثم أصبح الدفاع عن النظم ذا أهمية، حتى النظام السوري الذي يقال إنهم “معادون” له. فالأنظمة القائمة هي “أقل ضرراً” من الثورات، مهما كان الموقف منها، أو “الصراع” معها. وكلها نظم مافياوية، تشكلت في سياق الهيمنة الإمبريالية، بعد أن فرضت الخصخصة والانفتاح الاقتصادي خياراً وحيداً، وقبلته هذه النظم نتيجة مصالح فئاتٍ فيها نهبت الاقتصاد (القطاع العام).
الإعلام “الغربي” متحيّز طبعاً، بالضبط لأنه يعبّر عن مصالح الطغم المالية التي تريد إجهاض الثورات.
* نقلاً عن “العربي الجديد”
عذراً التعليقات مغلقة