في الطريق إلى المحكمة، يدٌ مُقيدةٌ في سلسلة القهر الطويلة، والثانية تتمسَّكُ بأيِّ نتوءٍ من هذا العالم العفن تسمح للأصابع بالتشبُّثِ بها لتمنع الجسد النحيل من السقوط على أرضية “سيارة اللحمة” المخصصة لنقل المعتقلين.
نلبس زيَّاً مُوَحَّداً مُخطَّطاً بالأسود والأبيض، وهو لون المحاكم في الذاكرة، لون وسيلة التعذيب الخفية، تلكَ التي تُنتِجُ القهر والذل على مدى طويل، طويلٌ جداً.
عندما تأتي قائمة المعتقلين المطلوب مثولهم أمام محكمة قضايا الإرهاب في دمشق، في عُرف السجن تستغرق الرحلة إمَّا اسبوعاً واحدا، أو اسبوعين، وفي الحالة الثانية فالمعتقل سيقضي الأسبوع الثاني في مركز إيداعٍ في سجن حمص المركزي، وتُسمَّى “الأمانات” وهي من ضمن البناء القديم وتقع تحت سطح الأرض وهي عبارة عن ثلاثة زنازين، أحداها مخصصة لبيع مستلزمات النظافة الشخصية وبعض أنواع الأطعمة المُعلبة بأسعارٍ مُضاعفةٍ عن سعرها في السوق، والمسؤول عنها سجين محسوب على النظام، كان قائد مجموعة في ميليشيا الدفاع الوطني وقام بأعمال خطف وقتل لمدنيين من منطقتي وهو معروف بإجرامه من “آل سلامة” المشهورين بأعمالهم الإجرامية في حمص وسلمية منذ انطلاق ثورتنا المباركة وحتى اللحظة.
بناء الزنازين قديمٌ متهالك، تبلغ مساحة الغرفة تقريباً خمسٌ وثلاثون متر مربع، يوجد في إحدى زواياها صنبور ماء ومرحاض، والمياه دائما قليلة أو مقطوعة، وفي أعلى الجدار الشمالي نافذة قليلة العرض فوق سطح الأرض، تُطِلُّ على أرضية الساحة الخارجية للسجن، ولا يوجد في الزنزانتين أيُّ مستلزماتٍ للنوم، حيث يقوم المعتقلين بفرش أغطيتهم التي أحضروها معهم من سجونهم للنوم عليها في أسوء ظروفٍ خدميةٍ وصحيَّة .
هناك معتقلون قد يقضون مدة أشهرٍ في أمانات سجن حمص المركزي، إذا تأخرت برقيات تسييرهم من وإلى سجونهم أو إلى سجن دمشق المركزي “سجن عدرا” للمثول أمام المحكمة.
في أواخر شهر تشرين الثاني من العام الماضي وبسبب الازدحام الكبير في مركز إيداع المحاكم في سجن عدرا في دمشق، بقيت عشرة أيامٍ هناك، ثم نقلونا إلى سجن حمص المركزي، حيثُ أكملنا بقية الأسبوع الثاني في أماناته، كانت من أسوء الأيام التي قضيتها في كل مدة اعتقالي، ومنذ دخولنا سجن حمص بدأ عناصر الشُرطة بإذلالنا بحجة التفتيش، حيث جعلونا نتعرَّى بالكامل، وكأننا في إحدى الفروع الأمنية أو السجون السريَّة، وبعد التفتيش الدقيق وتخريب بعض المعلبات التي نحملها معنا قادونا بعد إعادة تقييدنا بالسلسة الطويلة مع بعضنا إلى الأمانات، حيثُ كُنَّا أربعين معتقلاً في الزنزانة الواحدة بدون ماء، وكان مكاني مع معتقلٍ في السبعين من عمره ويعاني من مرض القلب، أمام المرحاض، وأمام باب الزنزانة، في جوٍّ خانقٍ وروائح لا تُحتمل.
لا يمكننا الاستلقاء بكامل الجسد، وإنما نضطرُّ إلى ثني رُكبنا بحسب المكان المُتاح لنا في هذا الزُحام، ملتصقين ببعضنا بشكلٍ قسري، ننام على حقائبنا ونغطي أنفسنا بغطاءٍ واحدٍ مع بعضنا، والبرد والقمل يقومان بمنع النوم من الاقتراب من أعيننا، فنقضي أغلب الوقت ونحن جالسين مستندين إلى الجدار نتبادل أحاديث عن حياتنا القديمة وفي بعض الأحيان نُطلق العنان لأصواتنا بالدندنة والغناء، لنتغلَّبَ على كل هذا اليمِّ من القهر.
في اليوم الثاني، وبسبب عدم حل مشكلة انقطاع الماء، ولأنَّ الوضع لم يعد مُحتملاً قُمنا بقرع الباب بأيدينا وأقدامنا والصُراخ لعناصر الشرطة المناوبين في الأمانات، فبادرونا بأوامر الصمت والتزام الهدوء وبشكلٍ فجٍّ، مهددين بالعقوبة، حتى جعلونا نخرج عن السيطرة وكانت ردة الفعل على غير ما توقعوا منا، وزاد صراخنا وقرعنا على الباب وانضم إلينا بعض المعتقلين الآخرين، وبعدها انضم إلينا المعتقلون في الزنزانة المجاورة، وعندما أتى شرطي من إدارة السجن ليستفسر عن الأمر، وعندما علم بأننا من سجن حماه، زاد حقده علينا بسبب سُمعة السجن السيئة بالنسبة لباقي إدارات السجون، بعد استعصاء 2016 الذي استطعنا من خلاله إلزام النظام بتنفيذ ما اتفق عليه لإنهاء الاستعصاء.
ولكن يبدو بأنَّ الشرطي عندما رأى كل المعتقلين في الزنزانتين غاضبين ويد واحدة، وأنه من الممكن أن تخرج الأمور عن السيطرة، حيث أنَّ بناء السجن القديم في سجن حمص المركزي مُستعصٍ منذ العام 2012 ومن الممكن أن يؤازرنا المعتقلين هناك في حال حدث أي تصعيد ضدنا، فما كان من الشرطي إلَّا أن رضخ للمطالب وأحضر “صهريج” ماء وملأ الخزان المخصص للأمانات، وباتت معاملتهم أكثر لينة.
كان أغلب المعتقلين الموجودين معنا هم من شباب ورجال مدينة حلب والذين اعتقلوا بعد احتلال المدينة من قبل ميليشيا الأسد وحلفائه، وهم من المدنيين الذين لم يحملوا السلاح وصدقوا وعود النظام والمحتل الروسي بعدم التعرض لهم من قبل الأجهزة الأمنية السورية، ولكنه زجَّهم بأعداد كبيرة من الشباب والعجزة.
ما أود الإشارة إليه هنا ليس فقط سوء معاملة السجون للمعتقلين، وإنما إلى تلك اللحظة التي يشعر فيها الإنسان المقهور بأنه يستطيع كسر خوفه ولو مؤقتاً، يستطيع التمرد والصراخ في وجه حاكمه الظالم ليكُفَّ عن ظلمه، هذا ما رأيته في عيون الأغلبية الموجودة في الزنزانة، هؤلاء لم يكونوا من الثوار الفاعلين في السنوات السابقة، وإنما كانوا من الرماديين، والناس البُسطاء، ولكن عندما رأونا لم نسكت عن حق الجميع وليس دفاعاً عن مصالح ضيقة وشخصية، هذا ما جعل جُرأةً تظهر في قلوبهم ولو أنها للمطالبة بحفنة ماء، ولكنها أفضلُ من السكوت. استطعنا بتوحيد كلمتنا على كثرتنا بتحقيق ذلك المَطلب الصغير ماديَّاً، والكبير معنوياً.
كسر الخوف وعدم السكوت عن الظلم والخطأ بحق الشعب، هي ثقافة ولا بُدَّ أن يتعلمها الجميع طبيعياً، رغم الثمن الباهظ الذي سيدفعه المجتمع لأجل أن يتطور وينتهي من حالته القطيعية.
عذراً التعليقات مغلقة