لا شيء يحدث بهدوء في تلك البلاد ولا حتى اقتطاف أخبار الموت من السماء.
تتجه متوجسة نحو دائرة النفوس في دمشق، عمرها الخمسيني أثقل من أن يحملها وحده، فهي تحمل في داخلها الكثير من النكران والرفض، وأمل عظيم لم تكسره سنوات الاختفاء الخمس السابقة.
تقف في طابور طويل من الحالمين مثلها الذين يقتسمون رغيف الانتظار فيما بينهم بالدمع والدعاء والتماسك، على الجانب الآخر تسمع نواحاً ضخماً يقتص من صمتها وينبئها بنهايات مخيفة أيضاً.
تقترب أم محمد من الموظف المتململ، تسلم له أوراقها الشخصية هامسة باسم ابنها تضع يداً على قلبها وتمسك بالأخرى جزداناً أسوداً وترتجف. يمد الموظف نفسه يده معيداً أوراقها، ويطبع ورقة بيضاء مقسمة إلى اثنا عشر خانة، بيان وفاة باسم ابنها البكر “الله يرحمو” يقولها كمن اعتاد النطق بالأمر لكثرة تكراره “خلي دور لغيرك يا حجة الله يخليك”.
تسقط أرضاً، تمسكها يد عابرة وتسحبها خارج المكان، المكاتب هنا ليست مجهزةً لإقامة العزاء، بل لفرضه وحسب، تمعن النظر بالورقة في يدها، توفي محمد منذ ثلاث سنوات، أي تزامناً مع الوقت نفسه الذي أخبرها ضابط ما أنه قادر على إخراجه إن دفعت له مبلغاً ضخماً من المال، ثم اختفى الأخير بالمال وبروح ابنها أيضاً.
أيام كثيرة تلك التي قضاها تحت التعذيب، سنتان ونصف كما يقول التقرير منذ تاريخ اختفائه وحتى وفاته ومثلما تقول الورقة اللعينة هذه، الكثير من الأوجاع عاناها “آه يا فلذة الكبد” شهور طويلة من أمل الانتظار انقضت اليوم، كل الكوابيس التي استعاذت من الشيطان أن تتحقق كانت صادقة للغاية، كل الأحزان التي خبأتها لتستطيع المقاومة لأجله انكبت عليها مرة واحدة، (تحت التعذيب) كلمة ستبقى ترن في أذنها لأعوام كثيرة، لأعوام لا تدري إن كانت ستعيشها.
ترى ما الذي تنجبه تلك البلاد لنا إلا شؤماً؟
آلاف العائلات تتجه اليوم نحو دوائر النفوس التي قد تمنحهم أيام أمل إضافي، أو قد تخذلهم سريعاً، الكثيرون يجلسون حول هذه المراكز يلملون الدمع، ويضربون الصدور. بعضهم يأتي صامتاً ويرحل أكثر صمتاً، والبعض الآخر لا يدرك ما الذي يحدث حوله، أو في الحقيقة يخاف أن يدرك.
البلاد التي تقامر فيها على اسم الذين تحبهم بالموت، مجبرة إياك أن تقف على باب الجلاد وتدعو الرب في السماء أن لا يكون اسم ابنك أو أخيك أو حبيبك من بين الذين دفعوا ثمن وجودهم في الحياة موتاً، تدعو أن يكون حياً تحت براثن التعذيب، ثم تدرك فداحة التخيل، وعند اصطدامك بحقيقة وفاته حقاً في تلك المقبرة، تذهلك قسوة الأمر وتمنعك عن النوم أياماً.
ما الوطن الذي يفكر به الباقون في عهدته؟
كيف يمكنهم دفع ثمن هذه الحياة كسرة خبز ووليمة من دماء؟
من قال أن أبناء هذا الجيل سيسلمون بالغفران لسطوة الجرح الذي لا يزال ينزف فيهم وهم عراة اليوم أمام شيء واحد، أن كل أمل في الانتظار سيأتي في مواجهتنا يأساً عظيماً.
تمضي تلك الأم بخيبتها العظيمة عائدة لمنزلها المستأجر في حي دمشقي، تمسك آخر قطعة تمتلكها من ملابسه التي عكفت على الحفاظ عليها طوال تلك السنين لتفاجأه بها أثناء عودته، سيعود مشتاقاً برداناً متعباً، وسيكون سعيداً إن وجد كنزته المفضلة قد نجت من القذائف وخرجت على قيد الحياة، مثله تماماً وهو يمر عبر نفق الحياة من قبو الموت ذاك.
ضمت الكنزة إلى صدرها وبكت حتى جف الحزن في حلقها وتحول شوكاً غليظاً، يحمل ابنها الصغير الهاتف راداً على المعزين بقوله: “حمودة ما مات، أمي ما بتفهم، بتشوفوا بكرا كيف رح يرجع ويتصللنا ويقلنا تعو خدوني، أنا بدي روح أخدو”
لا يزال ذلك الشعب بكل مرارة تجرعها يمسك بأمل ضئيل لم تمنحه إياه الحياة بعد أن صار الحزن غليظاً وكثيفاً لهذه الدرجة، الأمل فعل مقاومة، ونجاتنا حتى هذا الوقت وفي كل ما مر بنا كان لأننا نقاوم حتى النهاية.
بينما تُسلم قوائم الشهداء اليوم، وتقام العزاءات في سوريا وبلاد الاغتراب بالتوازي مع فداحة السخط والشعور السيء، هناك الكثير من الوعود واللعنات تنزل باسم القتلة على كثرتهم، ويبقى صوت المنكسرة أرواحهم أعلى من ادعاء الأمان الذي يساوم به رأس النظام اليوم.
ستكون خراباً إن سارت كما يشاء، ستكون خراباً ممتداً ببقاء الظلم وتجّبره، أما نحن فلن نغلق جراحنا وننسى، دمهم الطريق؛ دم الشهداء طريقنا حتى مطلع النصر!
عذراً التعليقات مغلقة