عبر عدّة واجهات “إنسانيّة” مزعومة راح النّظام السّوري يسوّق لعودته إلى الحياة بعد أن هجّر معارضته على اختلاف مشاربها وتشرذمها، ودمّر معظم المدن السّورية، وزرع المحتل وشرعن استثماراته الطائفيّة، كلّ ذلك كان ينقصه لمسة دعائيّة من قبيل تحويل الأنفاق الّتي كانت “فصائل المعارضة” تستخدمها في الغوطة الشرقيّة للتنقل العسكريّ ونقل الغذاء والطعام والسّلاح بمعرفة النّظام وحواجزه وقتئذ! تحويلها إلى مزار فني يحتوي أعمالاً مدرسيّة طلائعيّة منحوتة على جدرانه، زارها “بشار الأسد” منذ أيام ليبارك “البطولة” و “الصمود” ويظهر ردّة فعل السّلطة على مخلّفات “المسلّحين الأشرار” بأن تصبح ممراتهم السّريّة-التّجاريّة، معبراً فنيّاً للمشاعر الرّهيفة المتساقطة من النّظام وماكينته الإعلاميّة.
كذلك الأمر بالنسبة لصورة “أسماء الأخرس” الّتي قيل إنّها مصابة بسرطان الثدي (…) والّتي راح موقع فيسبوك يقترح صوراً للتعاطف معها، من باب “لا شماتة بالمرض” كما روّج النّظام على مدى أيام، في حين كانت تصدر من مكاتب الاستقرار والقتل الجماعيّ بيانات وفاة آلاف المعارضين له تحت التّعذيب، دون أدنى إدانة من هذا العالم “الإنسانيّ جدّاً”!
واستمر معرض الكتاب تحت حذاء تمثال “الأب القائد” وسط ساحة الأمويين، ليُعاقب كتّاباً بمنع كتبهم ويسمح لآخرين يعيشون بمعزل عن كل الموت والرعب والركوع والصمت والثّورة أن ينتشروا بحفلات حزينة لتوقيع اصداراتهم من أجل استثمارهم في حملات إعلاميّة عن “عودة” الاستقرار لوسط العاصمة، هل قلنا استقرار؟ دعوني أسمّيه “تمكين الاستعباد” بعد أن استخدمت السّلطة ومعارضتها كلّ أنواع العنف كلغة “حوار دمويّة” جعلت العامّة يرجعون للخلف جدّاً، للعادة الّتي ولدوا عليها وهي حضن الدولة الحاكمة بالحديد والنّار! هذا الكيان الذي وصفه الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) بتعريف بسيط معناه “أكثر ما يهم الدولة أن تجعلك مستعداً للقتل بضراوة عندما تطلب منك ذلك” وهذا تماماً ما يمارس بين السّوريين، هذه البلد التي يعتقدون أنّهم يدافعون عنها، هم في الحقيقة يدافعون عن كيان حكّامها الّذين يبرمون الصفقات مع الدّولة. ما رأيكم بحملات “هيئة تحرير الشام” بالتنقيب عن الآثار في الشّمال السّوري؟ ما رأيكم بالسّوق التركية التي كانت قد أنشأت بمعرفة المعارضة المسلّحة لبيع تاريخ البلاد وتراث حضارتها من الأثار السّوريّة؟ وما الذي عند دولة محتلة مثل تركيا أو روسيا أو إيران سوى أن يجعلوا من بلدنا مكاناً مناسباً لتغيير التاريخ لتسود قواتهم وبدعم زعامات سوريّة من “النّظام والمعارضة”؟ إن تدمر ودرعا وحماة وعشرات المناطق السّوريّة الأثريّة تشهد بنذالة هذا التواطؤ مع المحتل.
إذاً لم يعد أمامنا كيان دولة مستقر كما الماضي، دولة تباع آثارها وشواهد حضارتها من أجل تأسيس دويلات: كرديّة أو إسلاميّة أو أسديّة…، ومهما افتتح النّظام من فعاليات ثقافيّة وصَرعات إنسانيّة يغطي بها الجرائم، ومهما تناسلت المعاهد الشرعيّة لإعداد الدّعاة في مناطق سيطرة المعارضة وفاض للسطح كل هذا التخلف الفكري لتدخّل الدّين بالسّياسة، لن تعود الدّولة كما كانت برأيي، لأن الثّورة السّوريّة منذ لحظاتها الأولى، نسفت كلّ ذلك لتخرج الدّفاعات الدمويّة عن الاستقرار الأسديّ، وما يحدث تماماً هو صراع ناريّ بين هذه السّلطة وما أنتجته من أفكار عن الوصول للحكم بالعسكر، سواءً بأساليب “شرعيّة-دينيّة” يرافقها محاكم عسكريّة أو عبر الانتخابات ذات النتائج الوراثيّة، فلا يتغير شيء إلا بعض الأشخاص، الّذين بالصدفة سيحملون ملفات وتهم الفساد العامّة، وذلك لو تم سيكون بعد عشرات السنوات ودون برامج عمل أو مساحة انتقاد إعلامية حقيقية. وبناءً عليه يمكن القول إن الدّولة المستقرة أفضل بالنسبة للعامّة من الدّولة المتوترة التي تريد الحرية على شاكل “الخلافة الإسلامية والنصرة”، ذلك أن الاستقرار يُغطى الآن بعودة العبوديّة. والإرهاب يعرّفه أهل المعارضة على أنّه قتل المدينين دون وجه حق، فيما يراه النّظام أن كلّ من حمل السّلاح ضدّه فهو “إرهابي” سواءً أكانت حاضنة شعبية أو مناطق معارضة، وبالتالي لا يشرح لنا النظام كيف اخترع تحاميل “المصالحات الوطنية” ليصفي قادتها في الفصائل المعارضة تباعاً كما في درعا الآن، بالمقابل ولأن هذا النّظام استعباديّ، فقط اختار دولة كبيرة لتوطيد عبوديّته وهي روسيا وجنوداً مأجورين، لأن معظم الشعب لن يقاتل في سبيله، وهم جنود إيران. وما إن أمرته الدولة الكبيرة بإخراجهم حتى فعل ذلك، إذاً نحن لسنا كياناً وطنيّاً ذو سيادة كاملة وحقيقيّة وليس لدينا معارضة مستقلّة وليبراليّة نراهن عليها، هذا لسان حال أهل الداخل ليتمسكوا بثنائيّة الاستقرار مقابل العبودية، ولن يثنيهم أحد عن ذلك، أليست حريّة قرار شعبي؟ ولكن، مهلاً ألا يوجد كرامة لكلّ هؤلاء؟ حتّى لو انصاعت الدولة للخارج بمختلف أطراف صراعها المجنون، ألا يعمل البعض على ورش وطنيّة حقّة، تحيل الفكر السّياسي على الطاولة للنقاش والتّداول بمعزل عن المرجعيات المتطرفة “دينية أو حزبية”؟ ألا يلاحظ هؤلاء أن أقبية الرّعب في المدن المحتلة من روسيا وإيران وبعض أزلام النظام في سورية، سوف تدوسهم ما إن فكروا بالتغيير ولو على مستوى الرغبة بالحريّة؟ ربّما لن ينتبهوا! لأنهم لا يقرأون ولا يتابعون ولا يعرفون سوى ما يريده الطّاغية ومؤسساته الثقافيّة والإعلاميّة وأجهزته الأمنيّة الكثيرة! بالتأكيد أقصد كلّ من تسلم سلطة في سورية، لأن في النظام طاغية قديم ويتهالك تباعاً، أمّا في المعارضة ثمّة عدّة طغاة من عسكر وسياسيّين وإعلاميّين…إلخ، بالمحصلة هذا ناتج فكري لمن يعمل وهو مغمض العيون والعقل على غيبيّات لا ماديّة، وعلى آمال، لا دراية ومعرفة وقناعة، فهل قلنا استقرار آمن بجينات استعباديّة؟ أجل هو كذلك مع بعض الأدوات الإنسانيّة المزيفة والشّعب يحب الظواهر الخلّابة والمشهورة من برامج مسابقات اكتشاف المواهب وصولاً لفتاوى “الصحوات وأخوة المنهج” كما يسمونهم أهل “الجهاد الشامي”!!
إنّه استقرار مناسب لشعب يصور منذ أيام رفع تمثال “حافظ الأسد” وسط مدينة حمص مجدداً، بكلفة ملايين الليرات السورية، ولا زال يؤكد هذا التصرف على اعتياد العبوديّة، ما الحلّ مع هكذا شعب؟ هل قلنا حلّ… حوار… حرب أهليّة… تهجير… والفواتير الإنسانيّة في النهاية مدفوعة حتّى لو باع تجار السّياسية وعسكرها آثار بلادنا.
عذراً التعليقات مغلقة